الأحد، 25 أبريل 2010

هبط الملاك في بابل ..الأفكار على قارعة الطريق

يمتاز المسرح دوما عن باقي الفنون بالتجدد والاستمرارية وهذا ما يجعله أقرب إلى الحياة في صيرورتها ، فهو مرتبط بلحظة آنية مستمرة ، تجعل النصوص المسرحية ذات الشأن العظيم قابلة لأن تستوعب الحاضر وتناقش قضاياه ، فالدلالات داخل النص تستوعب أكثر من مستوى للتلقي وتصنع معانيها المتولدة من نسقها الخاص بها، إلا أن أحيانا مفهوم التجدد يأخذ مسارا غير صحيح من خلال إقحام دلالات معاصرة قد لا يستوعبها الهيكل الأساسي للنص ، أو حتى بدون تهيئة ، من خلال خلق بناء خاص متسق مع ذاته يستوعب تلك الدلالات ، فغواية الجديد قد توقعنا في شرك بعض الأحيان ، وقد تجعلنا نسير في مسارنا الصحيح أحيانا أخرى. إن هذا الجدل يجعل الزملاء يتهم النقد بالمدرسية وعدم القدرة على استيعاب كل ما هو جديد ، إلا أنني أقول : إن النقد بريء من هذا نظرا لأن البعض يحصر نفسه من خلال طرح رؤى لبناء متماسك ويقحمها دون أن يعيد صياغة ذلك البناء ليجعله أكثر مرونة كي يستوعب ذلك الطرح الجديد ، فلا تطالبون النقد بالتحرر طالما لازال لديكم اعتقادا خاطئا بأن الجديد في الأفكار فقط ، إن الأفكار الجديدة تتولد من بناء متحرر يعيد انتاج المعنى ويشكله.

ودفعنا الحديث عن هذا الجدل هو الطرح الذي قدمه رضا حسنين مخرج عرض "هبط الملاك في بابل" لدورينمات من خلال الإعداد الذي قام بصياغته متولي حامد ، ذلك الطرح الذي يسعى إلى أن تكون بابل هي مصر بشكل مباشر وصريح ، ليس على مستوى الحكاية وأحداثها ، وإنما على مستوى لغات العرض المسرحي والتي تمثلت كالتالي:

- خلفية المنظر التي صورت في بعض الأحيان الكباري والمباني الشاهقة.

- استخدام بعض الأغاني المحلية.

- الإشارات اللفظية الواضحة للواقع المصري كنوع من الكوميديا اللفظية.

- استخدام اللهجة المحلية.

إننا هنا مضطرين بأن نتعامل مع هذا الطرح بناءا على الهيكل الأساسي للنص الذي حبس المعد نفسه داخله ، لنرى مدى اتساقه مع طبيعة الدلالات المطروحة داخل تلك الكوميديا الشعرية التي تميل إلى الفانتازية. والتي تصور لنا أجواء فوضى العالم المعاصر الذي يريد فيه الإنسان، وهو وحيد وأعزل، أن يعثر علي الخير والشر كي ينقذ (إنسانيته) و شخصانيته اللتين ضاعتا في متاهات الحضارة الصناعية ، وسقوط قيمها النابعة من وحشية المجتمعات الرأسمالية . فدورينمات هنا يؤكد على أن القوة المفرطة للأنظمة العظمى الحاكمة يتبعها موت للإنسانية. فـ (بابل) القديمة الحديثة، حيث البنوك والقوانين، والمصاعد الكهربائية، والسياسة، والخير والشر.. إلخ، يأمر الملك فيها بجمع الشحاذين في المدينة وتوظيفهم حتى لا يبقى فيها فقير، وكي يعم الرخاء. ولكن شحاذاً واحداً يدعى (عاقي) يرفض أن يترك مهنته ليصبح موظفاً وتفشل جميع الجهود لإقناعه.وفي تلك الأثناء يهبط الملاك ومعه هدية هي فتاة جميلة أرسلتها السماء إلى أفقر شحاذ. فيستحوذ عليها الملك ويهيم الناس بحبها، فينشدون الأشعار متغنين بجمالها، ويقررون تنصيبها ملكة وإجبار الملك على الزواج بها. وتقبل الفتاة الزواج ولكن من أي شحاذ في المدينة، أو من أي غني يستطيع أن يتخلّى عن ثروته ويصبح شحاذاً. ويحجم الناس، ثم يطالبون بطردها، ويأمر الملك بقتلها إلا أنها تهرب في النهاية مع عاقي الشحاذ. أما في نص العرض وفقا لرؤيته تهرب الفتاة الملاك بمفردها ويبقى عاقي الشحاذ بداعي وطنيته وحبه لهذه البلاد أملا في أن يغير شيئا من ذلك الفساد الإنساني ليتحول مونولوجه الأخير إلى خطاب مباشر موجه للجمهور ، فهو يحب الوطن أكثر من السماء وملاكها القادم إليه ، والذي اعتبرها العرض خلاصا مزيف يريد الشعب أن يتكئ عليه دون أن يتحرك.

إنني في الحقيقة أختلف مع تلك الرؤيا مع احترامي الشديد لصانعي هذا العرض ، فالملاك تبعا للهيكل الأساسي للنص والذي التزم به الإعداد \ متولي حامد لم يكن مجرد وهم يتواكل عليه الشعب وإنما رمزا للخلاص المتمثل في الجماعة التي تحركت بسببه جمهوريون وشعراء وفقراء إلخ.. فالملاك هنا يمثل الخلاص عن طريق إكساب الوعي للجماعة بزيف هذا النظام، لهذا فالملاك هو الأمل الروح الشاعرية المستمدة من الميثولوجيا القديمة والتي استلهمها دورينمات والتي تمثل وسطاء [بين الله و الإنسان] مع افتراض أن أولها كان أداةَ الله في الخلق، و أن الكائنات الوسيطية التي بعده، قد تنزل لعالم الدنيا لتعِين الإنسان وترشده الطريق الصحيح. وما يؤكد هذا اختيارها لأفقر شخص في المدينة لتتم عملية الكشف ليتأكد هبوط بابل ، وأن نهضتها الحضارية ما هي إلا نهضة مزيفة

الأحد، 1 نوفمبر 2009

الانتظار الأخير للفضاء المهجور

تعد مهنة الناقد من أكثر المهن خطورة وحساسية في آن واحد ، رغم ذلك فهي ممتعة تثير داخلك خليط من النشوة والارتياح ، خاصة وأن حكمك على الأشياء وتحديد مقدار القيمة فيها لا يعرضك للمساءلة أو مراجعة النفس في طريقة التفكير مثلما يحدث مع القاضي على سبيل المثال .. فأنت المرجع الأول والأخير في تحديد مقدار القيمة ، لكن هناك مرات قليلة تفقد هذا الإحساس ، نتيجة للدهشة التي تتعرض لها وأنت تشاهد عملا يفرض عليك جمالياته الخاصة التي تتوالد داخله بمنتهى البساطة والتلقائية ، حينها تجد أن المعايير المسبقة عديمة الجدوى ، وتتحول إلى مشاهد عادي .. تحب وتكره..تنبهر ..تنحاز لذلك العمل الفني ، هنا تكون المغامرة التي يخوضها الناقد.. بعد أن تخلى عن سلطته التي تفرض طريقة تفكير محددة .. وهنا أيضا يلومك الجميع وتتعرض للمساءلة .. فيطالبك الجميع أن تعود لموضوعيتك المعهودة. إلا أنك تجد نفسك مضطرا إلى أن تخوض المغامرة ، فهناك تجارب فنية تفرض عليك هذا المنطق خاصة ما إذا كنت داخل الحقل المسرحي.
لهذا لم يكن أمامي سوى أن أتبع هذا المنطق أمام تجربة عرض " الانتظار الأخير" لفرقة نادي مسرح قصر ثقافة كوم أمبو ، تأليف وإخراج " خالد عطا الله"، تلك التجربة التي أراها مميزة على كافة المستويات ، بما تمتلكه من خصوصية في التعبير ، تلك الخصوصية النابعة من بساطة التناول لحدث يومي معتاد تحول إلى حدث حامل لمجموعة من الدلالات القادرة على التفكك والتكوين باستمرار لخلق ما هو غير عادي فيتكشف لنا الوجه الآخر لهذا العالم المطروح ، فالعرض يدور حول أحد العمال القادمون من الصعيد ممن يأخذون أدواتهم وينتظرون في الشوارع والميادين لعل أحدا يستعين بهم في العمل ، هذا الرجل يأتي للرصيف الذي اعتاد الجلوس عليه انتظارا للرزق ، وحين يطول انتظاره ، يبدأ تداعي الذكريات لديه ليعرض لنا معاناته من خلال يوم كامل يعيشه، إن ذلك الحدث الذي يتكرر يوميا في المدينة وقد لا نلتفت إليه يتوقف عنده العرض ويصنع منه لحظاته الخاصة الكاشفة لوضعية هذا العامل داخل ذلك الفضاء الضاغط عليه بما يمثله من أنظمة ترسخ وجوده وتؤكد عليه.
فالعامل قادم بثقافته الخاصة بما تحمله من قيم إلى ثقافة المدينة التي يذوب داخلها ، فالمدينة ترفضه ككيان له تلك المرجعية الثقافية وتقبله كمجرد جسد ليتشيأ كسلعة داخل ذلك الفضاء وتمارس عليه كافة الممارسات الاستهلاكية ، ولعل هذا ما يجعل مسمى " سوق الرجال" له مغزاه عندما يطلق على هذه الفئة.
إن تلك المقابلة بين الثقافتين هي ما تصنع العالم الدرامي وآليات الصراع فيه ، فالعامل يريد أن يحتفظ بثقافته وهويته الخاصة خارج فضائها الذي أفرزها – المجتمع الصعيدي- ويعيش بها في فضاء مغاير رافض لها ، ذلك لاحتوائه على ثقافة بديلة يعطيها قوة وجوده على مستوى الرؤية ، لهذا تصبح مرجعية الصعيدي مهمشة داخل هذا الفضاء بل وتصل في النهاية أن تصبح معدومة بعد أن تحول إلى مجرد جسد/شيء تبتلعه كيانات هذا الفضاء ، خاصة ما إذا كان هذا الفضاء هو الشارع الذي يمثل مركز المدينة وتصل فيه آلياتها إلى الذروة سواء على مستوى شبكة العلاقات أم طبيعة الممارسات، فالشارع والمدينة في حالة تلازم مستمر ، فالشارع المفتوح يختزل داخله ثقافة المدينة.
لهذا نجد تطور الحدث داخل العرض يسير بشكل متلازم مع فرض صورة الشارع على فضاء المسرح تدريجيا ، إلى أن يسيطر عليه كلية ويجعل العامل جزء مكون له في الصورة وليس خارج عنه ، فالعامل يدخل في بداية العرض ومعه جدار هرمي يضعه في منتصف عمق المسرح ليعبر عن خصوصيته داخل الفضاء ، ثم يقوم بصنع مفردات الشارع من خلال قطعتين من القماش الطويلة عليها خطوط عريضة سوداء وأخرى بيضاء ، يضع واحدة على مستوى مرتفع قليلا أمام الجدار الهرمي ، والثانية تغطي مقدمة المسرح ، ليكون منظور المتفرج عبارة عن منظور عرضي لشارع برصيفيه الجانبيين ، فصناعة العامل لهذا العالم من خلال اكسسواراته المختلفة يعطي دلالة عميقة جدا داخل العرض تمهد للمفارقة التي سيتعرض لها فيما بعد ، وقد أفسح المجال لهذا عنصر الديكور والاستخدام الأمثل له بشكل بسيط ، ورغم بساطته إلا أنه مبهر وممتع في نفس الوقت يعبر عن خيال فطري في التعامل مع خشبة المسرح من المخرج "خالد عطا الله" ، فالعامل يدخل هذا العالم معتقدا أنه قادر على أن يحافظ على وجوده ، بأن ينظم ويشكل الفراغ بما يتلائم مع فضائه المهجور ، إلا أنه يكتشف عكس ذلك حيث يتوارى الهرم ويقلب على الجانب الآخر ويظهر باهتا بلا ماهية محددة لتغيب سطوته على هذا العالم الذي شكله بنفسه ، فيصبح غير قادر على التحكم به ، إن فضاء الشارع ينفي وجود فضاء القرية الصعيدية على مستويي الصوت والصورة ، فالنظام الحاكم لهنا الآن المسرحية أصبحت تتحكم فيه آليات الشارع ، لهذا يحاول العامل أن يقاومها في رحلة انتظاره للرزق من خلال جسده الذي يحاول أن يمارس طقوسه الخاصة التي كان يمارسها في الماضي ،حتى يحاول أن يستدعي تاريخه على أرض الحاضر في "هنا الآن"، جسد لا سبيل أمامه إلا هذا حتى لا يتعرض للفناء في زخم الشارع ، ذلك لأن عملية استدعاء تاريخ سلوكه الشخصي هو ما يؤكد على آدمية هذا الجسد.. وإذا ما فقده سيتحول إلى مجرد شيء ، إلا أن العامل ( علي محمد علي) يصبح تدريجيا غير قادر على عملية الاستدعاء نظرا لغياب فضائها مقابل حضور فضاء نظامه المسيطر يفرض ممارسات بعينها وليدة منه ، وليدة وسائل الإعلام والقيم الاستهلاكية وأبنية الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية وما ينتج عنها ، لهذا يفقد الجسد خصوصيته والتي ميزها المخرج على المستوى البصري من خلال عنصر الملابس الصعيدية التي يرتديها العامل، فمع مرور الزمن والانتظار يتعرى قطعة قطعة ليصبح مجرد جسد بلا مرجعية داخل النظام الرأسمالي والذي يجعله قابل للاستهلاك ، فها هو يمارس الجنس تحت الأرصفة. وتصبح الصورة المسرحية أكثر دلالة من خلال تضخم كيانات الشارع فالأقمشة/ الرصيف ترتفع تدريجيا لتغطي عمق المسرح ويتوارى وراءها البناء الهرمي تماما ، كما تعلق عليها الملابس لتصبح جزءًا منها.
وقد أضاف للعرض المسرحي عنصر المؤثرات الصوتية \عبد المنعم عباس، التي كانت داخل نسيج عالم المعنى في رؤية المطروحة من خلال المقابلة بين أصوات المدينة (الضوضاء – أصوات السيارات- الأغاني السطحية في وسائط الإعلام) والموسيقى المحملة بالتيمات والإيقاعات الصعيدية..إن تلك المقابلة الصوتية أكدت على الأزمة التي يمر بها البطل وأثرت اللحظات الدرامية في محاولات استدعاء التاريخ لمقاومة فضاء الشارع.
وفي النهاية يهزم العامل في محاولاته .. ويفنى الماضي (النبوت –القوة- الملبس الصعيدي- الموسيقى المحلية) في مقابل حضور هنا الآن لفضاء المدينة وآلياته(أصوات الشارع- أدوات العامل- العري والتأكيد على الجسد-وهم الوسائط الإعلامية) لهذا يفقد العامل خصوصيته ويتحول إلى مجرد جسد يموت تحت الأرصفة التي تمددت واحتلت الفضاء بالكامل.
خالد رسلان

الأحد، 30 أغسطس 2009

أشباح الزباء بين الحضور والغياب

جسد ناري وعقل بلا حدود .. هذا ما اتسمت به شخصية زينب "الزباء" ملكة تدمر في القرن الأول الميلادي ، تلك الشخصية التي حملت طبيعة خاصة وظروف محيطة بها جعلت من حكايتها الخاصة محملة بزخم من الدلالات القابلة لإعادة إنتاجها عبر مستويات متعددة من البنيات الحكائية المختلفة ، وهذا من خلال حضورها في بنية التاريخ كامرأة انتصرت على الفرس وواجهت الروم دفاعًا عن بلادها من جهة ، وامرأة منتقمة لأبيها " عمر بن ظرب" المقتول بيد " جذيمة الوضاح " ملك الحيرة داخل بنية الحكاية الشعبية في الموروث الثقافي العربي من جهة أخرى.
وقد استدعى "محمود دياب" هذه الشخصية ليصيغها في بنية درامية لها منطقها الخاص من خلال نص " أرض لا تنبت الزهور" مستفيدًا من الدلالات المطروحة في البنيات الحكائية السابق ذكرها لطرح منظوره الخاص في حبكة تصيغ بعدًا جديدًا لهذا العالم، فها هي الزباء تحمل صفاتها كامرأة فوق العادة كما طرحها التاريخ ، داخل رحلة الثأر المستمرة كما في المخيلة العربية . فبين حكاية التاريخ والحكاية الشعبية يتحرك دياب ليضع بصمته الدرامية الخاصة والتي ظهرت في أوائل الثمانينات ، وهو تاريخ له مغزاه ولا نستطيع أن نغفله بأي حال من الأحوال عندما نتناول رؤية دياب ، التي لا يتحقق لها الاكتمال بدون الرؤية الموسعة التي تشمل السياق الاجتماعي والتاريخي والتي يجب أن نكون على وعي بها أثناء قراءتنا لتلك البنية الدرامية ، فقد انتشرت في تلك الفترة شعارات السلام وإمكانية تحقيق قيمه بشكل فعلي على أرض الواقع ، وقد طرح دياب هذه القضية من خلال علاقة الزباء بقاتلي أبيها وإمكانية خلق السلام معهم.
وبداية من مصدر الحكاية ومرورًا بالخطاب الدرامي الذي يطرحه محمود دياب في الثمانينات يأتينا المخرج شادي سرور ليقدم نص "أرض لا تنبت الزهور " من خلال فرقة مسرح الطليعة في العقد الأول من الألفية الجديدة ، تلك الألفية التي تشعبت فيها الأفكار المطروحة في الثمانينات وازدادت تعقيدًا ، فماذا يمكن أن يقدم العرض من قراءة جديدة يتوجه بها لجمهور الآن؟
ذلك السؤال الجوهري الذي لابد منه حتى نستطيع أن نكتشف مدى فاعلية العرض في (هنا / الآن).
وتظهر الرؤية الخاصة بالعرض منذ بدايته من خلال الصورة السينوغرافية التي قام بصياغتها الفنان مهندس الديكور محمد سعد ببراعة شديدة حيث كان لها دور فعال في جعل كل عناصر الفضاء داخل نسيج واحد متكامل ومتنوع. مستوحيًا فكرة النص في مسماه " أرض لا تنبت الزهور" بأن جعل فضاء العرض تتكون مفرداته من كل ما هو بدائل للزهور من حيث الشكل والمعنى مثل: الصبار ، اللبلاب والذي وُزِّع في كل أرجاء خشبة المسرح ، والأحجار ، والأشكال المجردة التي تأخذ في هيكلها الخارجي تعرجات الثعابين على طرفي منتصف الخشبة من خلال أعمدة القصر والتي تُغطى في بعض اللحظات الدرامية ، كما يغلب على الفضاء اللون الحجري الأصفر الباهت .
إن هذا الفضاء وعناصره المكونة له يعطينا صورة بلاغية لهذا العالم المقفر والذي يصور تاريخ الكراهية الممتد عبر الأجيال وتراكم مشاعر الحقد من خلال ذلك البناء الضخم في الصورة المسرحية والذي تسري فيه روح جافة تفتقد لكل معالم الحياة ، مما يوضح لنا صعوبة تغيير ملامح هذا العالم ، ويتأكد هذا المعنى أكثر مع تقدم الحدث الدرامي والذي يعكس كيف أن ملامح الصورة المسرحية وآليات تكوينها يتحكم فيها منظور زينب الزباء والذي يتشكل بناءً على المعطيات التاريخية والاجتماعية التي سيطرت على وعيها للعالم ، فأوهام المعتقدات القبلية أصبحت حقيقة مسيطرة على الفضاء المسرحي بالكامل ، مما يؤكد على سطوة الزباء على هذا الفضاء من ناحية ، ومن ناحية أخرى التأكيد على أن تاريخ الكراهية المسيطر على هذا العالم إنما نتاج لآليات معتقداتنا ووهم ننسجه بأنفسنا.
وتقنية المنظور تتجسد منذ البداية من خلال الديكور داخل الفضاء والذي جسد حالة الصراع الداخلي التي تعيشه الزباء عبر الأحداث الدرامية ويتشكل ويعيد تكوين نفسه في كل مرحلة ليتحول إلى لقطة ذاتية (بالمفهوم السينمائي) تصنعه الزباء بنفسها ، فنجد المشاهد الأولى تعبر عن وجود مكاني مرعب تستقبل فيه الزباء لقاتل أبيها في طقس دموي ، فتبرز ملامح القسوة في الديكور والتي سبق أن ذكرناها من خلال عنصر الإضاءة التي تعاملت مع كل مفردة ديكورية على أنها كيان حي مستقل ومحرك للحدث ، داخل هذا الحفل الشعائري الذي أقامته الزباء وأسقطها في جرم التباهي وجعل من القصر معادلا لروحها الخربة، لكن في لحظات أخرى عندما تعيش حالة الصفاء وتشعر بأنوثتها وتتلمس مشاعر الحب نجد أن هذا العالم القاسي يتوارى وقد تجسد ذلك من خلال الأقمشة الشفافة التي تخبئ كيانات الثعابين التي تشير إلى قسوة الثأر داخل نفس الزباء ، ويأتي ذلك في أكثر من مشهد مثل : حب طفولتها لزبداي – ضعفها أمام حب عمرو بن عدي – احتياجها بأن تشعر بأنوثتها.
ويتأكد هذا المعنى أكثر في تلك التقنية المستخدمة عندما تعود كيانات الثعابين في الظهور في النهاية عندما تدرك الزباء أن حبها لعمرو بن عدي مستحيل في أرض ارتوت بالحقد لسنوات طويلة ، فهذا التاريخ أصبح قابعًا في لاوعيها والمنعكس من لا وعي الجماعة .
إن هذه الآلية التي تحدثنا عنها في عنصر الديكور والتي تعتمد على اللقطة الذاتية للزباء - كتكنيك سينمائي- هي السمة المسيطرة على العرض بالكامل والمتحكمة في كافة عناصره ، ويظهر هذا بشدة من خلال عالم الزباء الداخلي الذي يتجسد على خشبة المسرح والغير مدرك حسيًا بالنسبة لبقية الشخصيات الدرامية (الزباء هنا تقوم بعملية التبئير) فهذا العالم عكس تقلبات الشخصية وصراعاتها النفسية وشكل الرؤية النهائية للعرض، وأظهر المخرج شادي سرور هذا العالم الداخلي من خلال : -
1- كورس الممثلين والذي كان يجسد حركة الأحجار من الأرض ليصور كم المعاناة التي تعانيها تلك الأرض وقد عبرت عن هذا المعنى مصممة الأزياء "هبة عبد الحميد" بشكل جيد بتصميمها لأزياء تلك الشخصيات والتي جعلتها أقرب للتماثيل الحجرية المتحركة وجاءت معبرة في سياق العرض لتصور كيف أن هذا العالم الذي تعيشه الزباء عالم تنعدم فيه الحياة بلا مشاعر، وأضاف إلى المعنى أكثر مصمم الدراما الحركية أيمن مصطفى الذي جعل من كورس الأحجار يقومون بتعبير حركي يصور ويؤكد حالة المعاناة التي سبق ذكرها، وتعد تلك الصورة إضافة للنص في الحقيقة ذلك لكون دياب كان يحرك وقائع مسرحيته بين القصور الملكية ، فلا مكان آخر غير قصري الزباء بتدمر وغريمها عمرو بن عدي في الحيرة ، أما في العرض فتعكس هذه الشخصيات صورة العالم الخارجي والذي يعد مرآة موسعة لما يعيشه القصر ، وأيضا التأكيد على أن أوهام الزباء ومنظورها هو وليد هذا العالم ومنبثق منه في الأساس لهذا نجد هذا الكورس يشغل مراكز القوى في فراغ خشبة المسرح فحركته تنحصر في المستويات الرأسية وخاصة قمة منتصف المسرح في العمق ، تلك المنطقة في الفضاء التي حاول عمرو بن عدي أن يسيطر عليها في مشهد الأرجوحة من خلال محاولاته في إقناع الزباء بتغيير ميراث أجدادهم السلبي بدعوى الحب والزواج إلا إنه يفشل في النهاية وذلك بهروب الزباء لمقدمة المسرح مفسحة تلك القمة لأوهامها من جديد لتقتل نفسها أخيرا.
2- روح الشر / العرافة : وقد قامت بتجسيد الشخصيتين الفنانة منال زكي ببراعة عبر التنقل بين الشخصيتين في فترات قصيرة وإظهار توجه كل شخصية وعلاقتها بالزباء. إن كلا الشخصيتين داخل العرض يعيشان في عقل الزباء ويسيطران على حركتها داخل هذا العالم، فروح الشر هنا هي الشخصية التي تعيش داخل الزباء تلك الشخصية التي أفرزها المجتمع وآليات تفكيره ، وقد جعلها المخرج ملازمة للعرافة صاحبة النبوءة لأن كلاهما يمثلان روح القبلية والتي جعلت عقل الزباء عاجزًا عن الانفلات من القدر المكتوب لها لتعيش في كابوس ضاغط عليها في انتظار المنتقم القادم لا محالة ليثأر لمن قتلته جذيمة الوضاح ، لهذا تصبح روح الشر ملازمة للعرافة أمر له مصداقيته كمبرر في الدفاع عن النفس من ناحية ، ومن ناحية أخرى دلالة النبوءة في استمرارية هذا العالم الخرب والذي يمحو شخصية الزباء الفطرية كأنثى.
3- الزباء الطفلة والتي رأت مقتل الأب ، إن تلك الشخصية التي تستعيدها الزباء في الفضاء تمثل بداية نشوء المعتقدات القبلية في وعيها ، إن صورة الطفلة وآلامها إبان مقتل الأب ترسخ لمشاعر الحقد وتكمل منظور الزباء الذي تغيب عنه الرؤية لمستقبل يعم فيه السلام.
4- روح جذيمة الوضاح التي تهيم في الفضاء بعد مقتله للتأكيد على أن الثأر قادم لا محالة ليزيد من جو العرض المشحون بالضغينة ، وقد ساعد على ذلك الفنان ياسر علي ماهر والذي قام بدور جذيمة من خلال أدائه في المشهد الأول الذي اتسم بالاتزان وتقبل فكرة الثأر كجزء من منظومة هذا العالم ، فهو مرحب بالموت بمنتهى القوة ودون ضعف ومؤمن بمجيء مَن يثأر له.
يأتي في مقابل منظور الزباء منظور عمرو بن عدي والذي جسده شادي سرور ، وقد حاول هذا المنظور أن يتسرب تدريجيا محاولا فرض سيطرته ، بأن يتقاسم الفضاء مع منظور الزباء للعالم ، وقد تم ذلك من خلال استخدام تقنية المونتاج المتوازي التي وظفت جيدا في العرض حرفيًا / بنائيا ، و فكريا / تكوين المعنى ، فعلى الجانب الحِرفي ساعدت تلك التقنية في خلق إيقاع سريع للمشاهد التي اعتمدت عليها وتكثيف للنص الدرامي ، أما على الجانب الفكري فكان لها أثرها في الكشف عن أن كلاهما يعيشان في عالم واحد وهذا يطرح احتمالية توحدهما خاصة بعد تقاسمهما كرسي العرش داخل المنظر ، فيصبح تشكيل الفضاء المسرحي بهذه الطريقة عنصر مساعد لتحقيق منظور عمرو بن عدي ذلك الشاعر المثقف والذي يدرك أهمية السلام الاجتماعي ، إلا إنه يفشل في النهاية في تحقيق ما يطمح إليه في التخلص من الماضي ، فقد غاب صوت عمرو بن عدي أمام الحضور الطاغي لأوهام الزباء التي استولت على خشبة المسرح/القصر/المنظومة الحاكمة ، وسيطرتها على التاريخ بشكل كامل ، من ماضي يغلب عليه الطابع العدائي ، وحاضر مستمر في انتظار الثأر ، ومستقبل يشكك في مصداقية عمرو بن عدي ، وهذا ما يجعل الزباء تلقي بمقولتها المشهورة قبل موتها " بيدي لا بيد عمرو" ، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى خطاب دياب الدرامي الذي يعطي احتمالية لمستقبل أفضل للأجيال القادمة، فالزباء تضحي بنفسها وتقدم نفسها قربانًا لخلاص ذلك العالم ولتتخلص من أوهامها وقدرها المحتوم لها ولعائلتها وبالتالي لن يثأر أحد من عمرو بن عدي ، وفي ذات الوقت الأمل الموجود في الطفل ابن زبيبة أخت الزباء والذي سيرث السلطة ولن يتحمل أعباء الماضي بعد تطهيره ، إلا أن خطاب العرض المسرحي جاء أكثر تشاؤما من خلال الصورة المسرحية في النهاية التي سيطر عليها أوهام الزباء حتى بعد مماتها (روح جذيمة – الزباء الطفلة – مشهد قتل الأب – العرافة – روح الشر ) ، إضافة إلى مناهضي أفكار عمرو بن عدي في عالمه مثل قصير بن سعيد ، والرداء الأبيض الذي ارتدته الزباء فقد جدواه ، فمن الصعب أن تكون نفسها كأنثى، فهذه الصورة تفيدنا بعدم جدوى الخلاص الفردي الذي قامت به الزباء ، فالأزمة هنا أزمة العقول التي تعيش في المجتمعين – والتي تنعكس بطبيعة الحال على جمهور الآن- حيث إن الأوهام تسيطر على عقول الجميع وليس الزباء فقط.
وقد صنع العرض حالة جيدة من خلال المنهج الإخراجي الذي يعتمد عليه شادي سرور والذي يغلب عليه الطابع التعبيري والمتمكن منه ، كما أن الكورس أضاف كثيرا للمشاهد الطقسية من خلال الصوت الجماعي والتعبير الحركي المصاحب، إلا أن العرض إخراجيا افتقد للحالة التي يعتمد عليها في بعض الأحيان ، وجاء ذلك بسبب :
1- التطويل في كثير من المشهد والاهتمام بحوارات ثنائية كان من الممكن الاستغناء عنها وذلك حفاظا على حالة العرض ، لهذا كان يجب تكثيف العرض أكثر والتركيز على منظور الزباء – وهو رؤية العرض التي اعتمدت عليها- للعالم دون الخوض في تفاصيل أخرى.
2- تكرار الكثير من التقنيات في العرض للتأكيد على نفس الفكرة ، وجاء ذلك بسبب أن المخرج أرهق نفسه بأن يضع كل شيء منذ البداية فوجد نفسه بعد ذلك أنه لا يقدم الجديد ، وظهر هذا في : (التعبير الحركي- دلالة تواري كيانات الثعابين-جمل الكورس لا تضيف جديد بعد الربع الأول في العرض سوى أنها مجرد جمل لها أثر شاعري – التأكيد على التكنيك السينمائي في البداية رغم استخدامه وتوظيفه داخل العرض)
3- غواية الكوميديا عند بعض الممثلين ظهرت بشكل مناقض لحالة العرض الكلية وكانت مقحمة عليه وأدت إلى أن بعض الممثلين يفهمون دورهم بشكل خاطئ وأكبر نموذج على ذلك الفنان خالد النجدي الذي قام بشخصية قصير بن سعيد ، إلا أن هذا الحكم لا ينسحب على كافة مناطق الترويح الكوميدي في العرض ، حيث إننا نجد الممثل الشاب محمد الشربيني الذي قام بشخصية ابن حنكل الخمار يقدم كوميديا بشكل راقي ومناسب للمشهد الذي يسبق طقسية مقتل جذيمة.
4- التشتيت البصري في بعض المشاهد التي تتسم بالحركة الجماعية خاصة ظهور الأوهام من عقل الزباء في مشاهد المونتاج المتوازي.
ولكن أخيرًا أريد أن أشير إلى نقطة مضيئة في هذا العرض وهي خاصة بعنصر التمثيل النسائي عبر شخصية الزباء التي قامت بها الفنانة إيمان إمام والتي ظهرت كممثلة مسرح تمتلك موهبة حقيقية وجدت منفذ لها تلك الشخصية الصعبة المليئة بالتناقضات والصراعات الداخلية ، فقد استطاعت أن تظهر كافة جوانب شخصية الزباء وتحولاتها عبر العرض وتعاملت مع ذلك بشكل شديد الذكاء خاصة من خلال: أولا: ظهور مشاعر الأنثى بشكل تدريجي عبر العرض ، والتي هي بطبيعة الحال مكبوتة ، وأوضحتها من خلال طبقات صوتها وتنويعاته وحركتها الجسدية ، ثانيا: مشاهد الحب التي تسترجعها مع زبداي بشيء من الحنين ،ثالثا: التنقل من حالة لحالة بوعي شديد ، فحالة الانتقام الهستيرية التي أوقعتها في تجاوز الاعتدال ، مختلفة عن حالة الانتظار التي يسودها الهدوء في مواجهة المؤامرة حينا ، والاشتياق كأنثى حينا آخر ، رابعا: التوتر الداخلي العنيف في محاولاتها للتخلص من الشخصية التي أكسبها لها المجتمع ومعتقداته والمغايرة لطبيعتها.
وختاما لا يسعنا أن نقول سوى أننا شاهدنا عرض جيد في مجمله ومصحوب برؤية من المخرج شادي سرور والمتمكن من أدواته بما يتلاءم مع المنهج الذي يستخدمه ، مع أني أنصحه ألا يمثل في العروض التي يخرجها ، وذلك لأن أسلوبه كمخرج أسلوب يحتاج لتركيز يومي مع كل ليلة عرض حتى يتابع الحالة المقدمة مع الجمهور خاصة وأن المشاهد التي يمثلها من أهم مشاهد العرض وخاصة المشهد الأخير.
K-Raslan@hotmail.com

الجمعة، 10 يوليو 2009

اللي نزل الشارع.. وطرائق تقنع السلطة

من فكرة مستوحاة لنص الموت "لوودي آلان" المحمل بمضامين فلسفية ودلالات رمزية عميقة جاءتنا بشكل أكثر اجتماعية مجموعة من الصور المجردة والمشاهد البليغة البسيطة اعتمد عليها عرض اللي نزل الشارع تأليف وإخراج إسلام إمام في مسرح السلام بقاعة يوسف إدريس التابعة لفرقة مسرح الشباب، صور ترصد أشكال الخطاب والممارسات والاستراتيجيات الخاصة بالسلطة ، وعرض الطرائق التي تتظاهر بها السلطة أو تختلقها أو ترتدي أقنعتها وتحاكيها ، ليتكشف لنا أبعاد السلطة في مجتمع المحاكاة والصور الزائفة كيف أنها أصبحت مجردة على نحو متزايد ، وذلك لأنها تتكئ على أسس من الأشكال المحاكية ، أكثر من اتكائها على أسس من العلاقات الاجتماعية الفعلية.
وتدور أحداث العرض حول رجل وزوجته يقتحم رجال الأمن غرفة نومهما ليجبروا الزوج على النزول إلى الشارع للقبض على السفاح الذي يهدد المدينة ويحاولون إقناعه بأنه هو الوحيد القادر على القبض عليه وانقاذهم جميعًا من هذا الخطر ، لهذا عليه أن يظل مقيمًا هو وزوجته في الشارع أمام بيته انتظارًا للسفاح الذي من الممكن أن يجيء في أي لحظة ، ويحذروه رجال الأمن من الصعود إلى بيته مرة أخرى ، ويجب عليه تنفيذ التعليمات التي تأتيه منهم تباعًا دون وضع خطة محددة لهذا الأمر ، وإذا خالف تلك التعليمات فإنه يعرض نفسه للعقاب حيث إنه مراقب طوال هذا الوقت ويتركونه وحيدا في حالة من حالات التوتر والخوف الشديدين والذي يزيد من هذه الحالة أبعاد شخصية الزوج التي تمتاز بالسلبية وعدم القدرة على الفعل فهو دائم الخوف من العالم الخارجي ويسير داخل آليات المنظومة بحرص شديد حتى لا يعارضها ليتجسد فيه ميراث القمع والقهر في العالم الثالث. ويترك في الشارع كأنه في سجن انفرادي. أو بمعنى أدق ما اصطلح عليه " الحجر الإرادي " والذي تستخدمه السلطة في الأزمات الكبرى ضمن استعداداتها الانضباطية التي وراءها وسواس الانتفاضات والجرائم والتشرد والفرار والناس الذين يظهرون ويختفون ويعيشون ويموتون داخل الفوضى.
ويبدأ رجال الأمن أثناء مراقبتهم له في الظهور بأشكال مختلفة مستخدمين تقنية التنكر ، وتلك الأشكال التي تستخدمها السلطة كي تعبر عن خطابها وأيديولوجياتها التي تتقنع طوال الوقت لتسيطر على الفضاء الاجتماعي بأكمله بما في ذلك عناصره البسيطة جدا والمتناهية فعلى حد تعبير "فوكو" فإن السلطة بدلاً من أن تمارس نفسها داخل دائرة عامة أو خاصة ، تتغلغل في كل جانب حيث توجد فرادى مهما كانت بسيطة ومتناهية في الصغر ، إن السلطة تخدع وتموه وتوهم طوال الوقت دون أن تعلن عن حقيقتها ومرجعية خططها داخل المجتمع تمامًا مثلما حدث مع الزوج الذي ظل طوال العرض يسأل عن الخطة دون إجابة ، فالسؤال عن الخطة معناه كشف أقنعة السلطة واختراق لتابواتها.
ويسير العرض عبر مجموعة من المشاهد كل مشهد يظهر به قناع من أقنعة السلطة وكل قناع يظهر معه خطابه الخاص به :
i. خطاب الأمن:
وهو الخطاب المستمر طوال العرض ويتغلغل بشكل خفي في كافة الأشكال الأخرى وذلك لأنه ببساطة المراقب الرئيسي لكل الخطابات والضامن لجودة أداءها وهذه المراقبة هي ما تجعله له القدرة على العقاب، كما أنه له صلاحيات في كشف قناعه عند اللزوم لردع كل محاولة في الخروج عن النظام وهذا ما يُبرر داخل العرض تقنع رجال الأمن وراء كل خطابات وكشف تلك الأقنعة لترسيخ فكرة "أنك مراقب باستمرار" لهذا نجد رجال الأمن يسيطرون على عالم العرض بأكمله ويشكلون الفراغ المسرحي على المستوى البصري والسينوغرافي ، فهم يخترقون أشد الأماكن خصوصية المتمثلة في غرفة النوم بل والأكثر من ذلك فإنهم يحتلون سرير الزوجية ، كما أنهم يقومون بتغيير المشهد من غرفة النوم/مكان مغلق إلى الشارع/مكان مفتوح ، وقد جسد المخرج هذا المعنى على المستوى الحرفي ببراعة من خلال مهندس الديكور الفنان وائل عبدالله عندما جعل رجال الأمن يقومون بتحريك الديكور وتبديله خلال المشهد لتتكون صورة الشارع من المفردات الديكورية لغرفة النوم ، لتأكيد الفكرة الكلية التي يريد أن يطرحها العرض حيث أن غرفة النوم لم تعد مكانا مغلقا بل هي مكان مفتوح لرجال الأمن فهم يتسللون في كل مكان لمراقبته، وحاول العرض ترسيخ هذا المعنى منذ البداية عندما جعل المتفرجين يتلمسون بأنفسهم فعل المراقبة فهم يدخلون على مشهد غرفة النوم والزوج والزوجة نيام ، ويزداد الإحساس أكثر بفكرة المراقبة عندما نجد رجال الأمن يدخلون من مكان دخول جمهور المتفرجين كأننا جميعا نقوم بفعل المراقبة هذا ، وهذه الفكرة بالتحديد هي ما جعلت العرض له خصوصية عندما تم تنفيذه داخل قاعة مغلقة ، كي يتضح لنا جليا ما اصطلح عليه "مجتمع المراقبة" – البديل لمجتمع المشهد - الذي يرفض أن نكون في مسرح ويؤكد على أننا موجودون داخل منظومة الرؤية الكلية الخاصة بالمراقبة في عالم أشبه بالسجن النموذجي الذي يراقب فيه السجان كل المساجين في حين أن المساجين لا يستطيعون رؤيته لأنه يجلس وخلفه إضاءة ساطعة.
ii. خطاب الفن:
وقد ظهر من خلال تقنع رجال الأمن في صورة مجموعة من الراقصات ومغنية يقمن بمحاكاة ساخرة " بارودي" لأغاني سيد درويش ومجموعة من الموشحات أو يقدمن فقرات فنية مليئة بالسخف والسطحية وهنا تظهر لنا أزمة خطاب الفن الذي يتكشف كمسخ للماضي تارة أو محاولة فاشلة في البحث عن الذات وخلق هوية فنية معاصرة ، إن هذه الأزمة تصنعها آليات السلطة التي ترفض أي محاولة لإكساب الوعي لهذا الخطاب ، وهذا ما يبرر عندما يرفض الزوج المشاركة في هذا الخطاب يكشف رجال الأمن عن هويتهم ويذكروه بأنه دوما مراقب.
iii. الخطاب الاقتصادي الرأسمالي:
وهو الخطاب الذي تسود فيه العلاقات النفعية التبادلية وتغيب فيه العلاقات الإنسانية وقد عبر عن هذا نموذج الداعرة الذي - تقنع بها أحد أفراد الأمن - ، ذلك النموذج الذي تعد طبيعة العلاقات فيه انعكاسا واضحا لطبيعة العلاقات في عالم رأس المال ، وقد عبر العرض عن هذا المعنى عندما اقترن حضور الداعرة في العرض بحضور رجال الأعمال ، كما أن شخصية الداعرة كان لها دور في تبرير محاولات كل الخطابات الأخرى داخل العرض بجذب الزوجين إليها من خلال فعل "الغواية" سواء غواية الجسد أو غواية المال ، فهذا الفعل يكشف الطبيعة الحقيقية للخطابات الأخرى وأن محاولات الجذب في هذا العالم ما هي في الحقيقة إلا غواية.
iv. خطاب الدين:
يعد هذا الخطاب هو خطاب المعارضة الوحيد في العرض وقد تجسد من خلال شخصية "الشيخ" والذي يعد من أهم تيارات الأيديولوجية العربية والتي كانت لها أثرها الواضح على المجتمع عبر العصور ولها دور في تفسير التاريخ إضافة إلى قدرته على السطوة الروحية على الناس ، إلا أن هذا الخطاب يعيش في أزمة لأنه لم يعد خطاب مستنير وإنما تحول إلى خطاب "دوجما" أحادي التفكير مرجعيته النص الذي يريد أن يؤول العالم بناءً عليه بشكل سطحي ودون وعي ، وقد عبر العرض عن هذا بشكل كوميدي ساخر عندما صور لنا مجموعة من رجال الدين التي لا تفكر ولا تصنع شيء سوى الرجوع للنص والذي ظهر من خلال كتاب التأويل الذي بين أيديهم والذي يمثل المؤسسة الدينية ، وفي هذا الخطاب لا يكشف رجال الأمن عن وجههم الحقيقي الذي يتخفى وراء الشيوخ للزوجين ولكن يكشفه للجمهور فقط وذلك لعدة أسباب:
1- أنه يعد خطاب معارض.
2- رغبة السلطة في اكتساب صفة الديمقراطية المزيفة.
3- السلطة هي المحرك الرئيسي لكل خطابات المعارضة بشكل خفي في العالم الثالث (والسلطة هنا ليست بمعنى نظام الحكم وإنما سلسلة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافيا والتوزيع الديمغرافي.... إلخ).
v. خطاب الإعلام:
وهو الوجه الدعائي للسلطة الذي يتمثل داخله صناعة الوهم وخلق الشعارات المعلنة ، كما يتم استخدامه في توجيه المواطنين وتبرير لكل السلبيات في المجتمع ، وهنا يتحول الفراغ المسرحي بأكمله إلى فضاء دعائي للسلطة ، وفي هذه المرحلة بالذات تَضخم رمز السفاح الى أن أصبح أكثر شمولية ليمثل الفساد الموجود داخل المجتمع وكافة الأقنعة المزيفة الموجودة داخل العرض ، ويتعمق الموضوع أكثر عندما تكون صفة السفاح مرتبطة بالموت ، حيث إن كل ما سبق يؤدي إلى موت حقيقي لهذا المجتمع ، وأن الفاعل الحقيقي هي كل هذه الخطابات ، لهذا فإن الضامن الحقيقي لوجودها واستمراريتها هو إسقاط التهمة من خلال الإعلام على أناس يشبهون نموذج الزوج ، فالشخصية الرئيسية هنا هي جزء محوري داخل النظام لأن وجوده تحت المراقبة والاتهام طوال الوقت يرسخ النظام ويجعله لا يقع تحت طائلة التهديد والمحاسبة.
vi. خطاب العلم:
وهو تيار مهم داخل عالمنا والذي يمثله "التقني" -على حد تعبير عبد الله العروي- الذي يرى أن كل الحلول متمثلة في العلم الآتي من الغرب ، فرجال الأمن داخل العرض يلجؤون للخبير الأجنبي لاكتشاف السفاح والذي ظهر على أنه مجموعة من الحواس الحيوانية المضخمة من خلال تشخيص صفات الكلب في الشم والسمع ، فالأمن هنا يحاول تبرير اتهاماتهم من خلال أدلة العلم التي قد تكون وهمية من خلال لون الشعر أو الرائحة... إلخ وبالفعل يتم اتهام الزوج ، إلا أن خطاب الإعلام ينقذه في آخر اللحظة وينساق وراءه الأمن مباشرة لأنه الأهم بالنسبة للسلطة ليؤكد على أن فكرة اختيارهم للسفاح قائمة على الوهم والصدفة البحتة ، ويظهر الموضوع بشكل أكثر كوميدية عندما يقتلون اثنين من المواطنين في ذات الوقت. وتكون النهاية بظهور سفاح جديد يبحثون عنه مرة أخرى
وقد استخدم العرض شكل الكوميديا وتقنياتها والتي استغلت بشكل جيد في إبراز مضامينه وتطويعها لإبراز تلك الأفكار التي سبق الحديث عنها ومنها:-
1- التنكر : وهنا تقنية التنكر مستمدة آلياتها من آليات التنكر في الكوميديا ديلارتي المكشوفة طوال الوقت بالنسبة للجمهور ولا تكشفها الشخصيات داخل العرض مما يحقق المفارقة الكوميدية والإحساس بالتفوق عند المتفرج على حد تعبير برجسون ، إن هذه التقنية هي ما تكشف أقنعة السلطة وإكساب الوعي للمتفرج في النهاية، وهذا يعد توظيف جيد للكوميديا داخل العرض لإبراز مفاهيمه.
2- تنميط شخصيات رجال الأمن: وذلك للتأكيد على غياب الأبعاد الإنسانية في هذه الشخصيات وأنها أجساد مجردة في يد النظام يشكلها كما يشاء.
3- كوميديا اللغة: والتي تنبع كلها من رجال الأمن من خلال الآلية والتكرار وكسر تكوين الجملة اللغوية ، وتظهر هذه التقنية بشكل مبالغ فيه ويتم تضخيمها لكشف زيف الخطاب اللغوي للسلطة وإبراز تناقضاته المختلفة مع المجتمع.
4- آلية الحركة: والتي تصور الحصار ومجتمع الرقابة الذي يفرضه رجال الأمن على المواطن
5- التناقض: وهذه التقنية الكوميدية كانت من أهم التقنيات في العرض والتي تبلورت في علاقة الزوج بالزوجة من خلال المواقف المختلفة بينهما حيث يظهر الزوج في موقف الأضعف دوما ويفقد سلطته الذكورية ويظهر هذا من البداية ، فالنظام يريد أن يُسقط أي سلطة ممكن أن تكتسبها مثل تلك الشخصيات ليصبح هو السلطة الوحيدة المحركة للعالم الدرامي ، لهذا يحاول رجال الأمن في أغلب المشاهد التحرش بالزوجة في حضور زوجها أمام عينه. ويؤكد هذا المعنى عنصر الإضاءة الفردية الخاصة على الزوج في بعض اللحظات حيث كانت تصاحبه إضاءة من بعيد على المباني المرتفعة في الخلفية لتصور ضآلته.
وبرغم كل ما جاء - فيما سبق - إلا أن العرض امتاز بتعدد مستويات التلقي والوصول إلى كافة الشرائح إنه عرض بسيط يستطيع الوصول للجمهور بسرعة شديدة لكنه في نفس الوقت امتاز بالعمق وذلك من خلال مجموعة من الممثلين الذين صنعوا هارموني متماسك داخل العرض وحضور متميز خاصة الممثل الشاب أمجد الحجار والذي يعد مشروع ممثل واعد تم اكتشافه، إن الممثلين استطاعوا خلق جو من المرح والكوميديا بحيوية شديدة داخل فضاء القاعة برغم صغرها وقلة الجمهور. هذا إضافة للديكور الذي كان مناسبا للعرض فبرغم بساطته إلا أنه جاء معبرا لهذا العالم الدرامي خاصة في استخدامه مفردات واقعية مجردة لا تحيلنا لمجتمع بعينه. إلا أن من أهم العناصر التي كانت في العرض ولم تكن ملائمة هو عنصر الغناء فقد كان غير متسق مع بنية العرض الكلية ، كما أن هناك بعض المشاهد تحتاج إلى التكثيف ولا يقع الممثلين تحت تأثير التطويل في المشاهد لجذب الضحكات من الجمهور. وأخيرا لايسعنا إلا أن نقول أنه عرض استطاع أن يحقق المتعة ونرجو الاهتمام به في الإعلان عنه ومد فترة عرضه لأنه بالفعل نموذج للعروض الجماهيرية الجيدة
خالد رسلان

السبت، 16 مايو 2009