الجمعة، 10 يوليو 2009

اللي نزل الشارع.. وطرائق تقنع السلطة

من فكرة مستوحاة لنص الموت "لوودي آلان" المحمل بمضامين فلسفية ودلالات رمزية عميقة جاءتنا بشكل أكثر اجتماعية مجموعة من الصور المجردة والمشاهد البليغة البسيطة اعتمد عليها عرض اللي نزل الشارع تأليف وإخراج إسلام إمام في مسرح السلام بقاعة يوسف إدريس التابعة لفرقة مسرح الشباب، صور ترصد أشكال الخطاب والممارسات والاستراتيجيات الخاصة بالسلطة ، وعرض الطرائق التي تتظاهر بها السلطة أو تختلقها أو ترتدي أقنعتها وتحاكيها ، ليتكشف لنا أبعاد السلطة في مجتمع المحاكاة والصور الزائفة كيف أنها أصبحت مجردة على نحو متزايد ، وذلك لأنها تتكئ على أسس من الأشكال المحاكية ، أكثر من اتكائها على أسس من العلاقات الاجتماعية الفعلية.
وتدور أحداث العرض حول رجل وزوجته يقتحم رجال الأمن غرفة نومهما ليجبروا الزوج على النزول إلى الشارع للقبض على السفاح الذي يهدد المدينة ويحاولون إقناعه بأنه هو الوحيد القادر على القبض عليه وانقاذهم جميعًا من هذا الخطر ، لهذا عليه أن يظل مقيمًا هو وزوجته في الشارع أمام بيته انتظارًا للسفاح الذي من الممكن أن يجيء في أي لحظة ، ويحذروه رجال الأمن من الصعود إلى بيته مرة أخرى ، ويجب عليه تنفيذ التعليمات التي تأتيه منهم تباعًا دون وضع خطة محددة لهذا الأمر ، وإذا خالف تلك التعليمات فإنه يعرض نفسه للعقاب حيث إنه مراقب طوال هذا الوقت ويتركونه وحيدا في حالة من حالات التوتر والخوف الشديدين والذي يزيد من هذه الحالة أبعاد شخصية الزوج التي تمتاز بالسلبية وعدم القدرة على الفعل فهو دائم الخوف من العالم الخارجي ويسير داخل آليات المنظومة بحرص شديد حتى لا يعارضها ليتجسد فيه ميراث القمع والقهر في العالم الثالث. ويترك في الشارع كأنه في سجن انفرادي. أو بمعنى أدق ما اصطلح عليه " الحجر الإرادي " والذي تستخدمه السلطة في الأزمات الكبرى ضمن استعداداتها الانضباطية التي وراءها وسواس الانتفاضات والجرائم والتشرد والفرار والناس الذين يظهرون ويختفون ويعيشون ويموتون داخل الفوضى.
ويبدأ رجال الأمن أثناء مراقبتهم له في الظهور بأشكال مختلفة مستخدمين تقنية التنكر ، وتلك الأشكال التي تستخدمها السلطة كي تعبر عن خطابها وأيديولوجياتها التي تتقنع طوال الوقت لتسيطر على الفضاء الاجتماعي بأكمله بما في ذلك عناصره البسيطة جدا والمتناهية فعلى حد تعبير "فوكو" فإن السلطة بدلاً من أن تمارس نفسها داخل دائرة عامة أو خاصة ، تتغلغل في كل جانب حيث توجد فرادى مهما كانت بسيطة ومتناهية في الصغر ، إن السلطة تخدع وتموه وتوهم طوال الوقت دون أن تعلن عن حقيقتها ومرجعية خططها داخل المجتمع تمامًا مثلما حدث مع الزوج الذي ظل طوال العرض يسأل عن الخطة دون إجابة ، فالسؤال عن الخطة معناه كشف أقنعة السلطة واختراق لتابواتها.
ويسير العرض عبر مجموعة من المشاهد كل مشهد يظهر به قناع من أقنعة السلطة وكل قناع يظهر معه خطابه الخاص به :
i. خطاب الأمن:
وهو الخطاب المستمر طوال العرض ويتغلغل بشكل خفي في كافة الأشكال الأخرى وذلك لأنه ببساطة المراقب الرئيسي لكل الخطابات والضامن لجودة أداءها وهذه المراقبة هي ما تجعله له القدرة على العقاب، كما أنه له صلاحيات في كشف قناعه عند اللزوم لردع كل محاولة في الخروج عن النظام وهذا ما يُبرر داخل العرض تقنع رجال الأمن وراء كل خطابات وكشف تلك الأقنعة لترسيخ فكرة "أنك مراقب باستمرار" لهذا نجد رجال الأمن يسيطرون على عالم العرض بأكمله ويشكلون الفراغ المسرحي على المستوى البصري والسينوغرافي ، فهم يخترقون أشد الأماكن خصوصية المتمثلة في غرفة النوم بل والأكثر من ذلك فإنهم يحتلون سرير الزوجية ، كما أنهم يقومون بتغيير المشهد من غرفة النوم/مكان مغلق إلى الشارع/مكان مفتوح ، وقد جسد المخرج هذا المعنى على المستوى الحرفي ببراعة من خلال مهندس الديكور الفنان وائل عبدالله عندما جعل رجال الأمن يقومون بتحريك الديكور وتبديله خلال المشهد لتتكون صورة الشارع من المفردات الديكورية لغرفة النوم ، لتأكيد الفكرة الكلية التي يريد أن يطرحها العرض حيث أن غرفة النوم لم تعد مكانا مغلقا بل هي مكان مفتوح لرجال الأمن فهم يتسللون في كل مكان لمراقبته، وحاول العرض ترسيخ هذا المعنى منذ البداية عندما جعل المتفرجين يتلمسون بأنفسهم فعل المراقبة فهم يدخلون على مشهد غرفة النوم والزوج والزوجة نيام ، ويزداد الإحساس أكثر بفكرة المراقبة عندما نجد رجال الأمن يدخلون من مكان دخول جمهور المتفرجين كأننا جميعا نقوم بفعل المراقبة هذا ، وهذه الفكرة بالتحديد هي ما جعلت العرض له خصوصية عندما تم تنفيذه داخل قاعة مغلقة ، كي يتضح لنا جليا ما اصطلح عليه "مجتمع المراقبة" – البديل لمجتمع المشهد - الذي يرفض أن نكون في مسرح ويؤكد على أننا موجودون داخل منظومة الرؤية الكلية الخاصة بالمراقبة في عالم أشبه بالسجن النموذجي الذي يراقب فيه السجان كل المساجين في حين أن المساجين لا يستطيعون رؤيته لأنه يجلس وخلفه إضاءة ساطعة.
ii. خطاب الفن:
وقد ظهر من خلال تقنع رجال الأمن في صورة مجموعة من الراقصات ومغنية يقمن بمحاكاة ساخرة " بارودي" لأغاني سيد درويش ومجموعة من الموشحات أو يقدمن فقرات فنية مليئة بالسخف والسطحية وهنا تظهر لنا أزمة خطاب الفن الذي يتكشف كمسخ للماضي تارة أو محاولة فاشلة في البحث عن الذات وخلق هوية فنية معاصرة ، إن هذه الأزمة تصنعها آليات السلطة التي ترفض أي محاولة لإكساب الوعي لهذا الخطاب ، وهذا ما يبرر عندما يرفض الزوج المشاركة في هذا الخطاب يكشف رجال الأمن عن هويتهم ويذكروه بأنه دوما مراقب.
iii. الخطاب الاقتصادي الرأسمالي:
وهو الخطاب الذي تسود فيه العلاقات النفعية التبادلية وتغيب فيه العلاقات الإنسانية وقد عبر عن هذا نموذج الداعرة الذي - تقنع بها أحد أفراد الأمن - ، ذلك النموذج الذي تعد طبيعة العلاقات فيه انعكاسا واضحا لطبيعة العلاقات في عالم رأس المال ، وقد عبر العرض عن هذا المعنى عندما اقترن حضور الداعرة في العرض بحضور رجال الأعمال ، كما أن شخصية الداعرة كان لها دور في تبرير محاولات كل الخطابات الأخرى داخل العرض بجذب الزوجين إليها من خلال فعل "الغواية" سواء غواية الجسد أو غواية المال ، فهذا الفعل يكشف الطبيعة الحقيقية للخطابات الأخرى وأن محاولات الجذب في هذا العالم ما هي في الحقيقة إلا غواية.
iv. خطاب الدين:
يعد هذا الخطاب هو خطاب المعارضة الوحيد في العرض وقد تجسد من خلال شخصية "الشيخ" والذي يعد من أهم تيارات الأيديولوجية العربية والتي كانت لها أثرها الواضح على المجتمع عبر العصور ولها دور في تفسير التاريخ إضافة إلى قدرته على السطوة الروحية على الناس ، إلا أن هذا الخطاب يعيش في أزمة لأنه لم يعد خطاب مستنير وإنما تحول إلى خطاب "دوجما" أحادي التفكير مرجعيته النص الذي يريد أن يؤول العالم بناءً عليه بشكل سطحي ودون وعي ، وقد عبر العرض عن هذا بشكل كوميدي ساخر عندما صور لنا مجموعة من رجال الدين التي لا تفكر ولا تصنع شيء سوى الرجوع للنص والذي ظهر من خلال كتاب التأويل الذي بين أيديهم والذي يمثل المؤسسة الدينية ، وفي هذا الخطاب لا يكشف رجال الأمن عن وجههم الحقيقي الذي يتخفى وراء الشيوخ للزوجين ولكن يكشفه للجمهور فقط وذلك لعدة أسباب:
1- أنه يعد خطاب معارض.
2- رغبة السلطة في اكتساب صفة الديمقراطية المزيفة.
3- السلطة هي المحرك الرئيسي لكل خطابات المعارضة بشكل خفي في العالم الثالث (والسلطة هنا ليست بمعنى نظام الحكم وإنما سلسلة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافيا والتوزيع الديمغرافي.... إلخ).
v. خطاب الإعلام:
وهو الوجه الدعائي للسلطة الذي يتمثل داخله صناعة الوهم وخلق الشعارات المعلنة ، كما يتم استخدامه في توجيه المواطنين وتبرير لكل السلبيات في المجتمع ، وهنا يتحول الفراغ المسرحي بأكمله إلى فضاء دعائي للسلطة ، وفي هذه المرحلة بالذات تَضخم رمز السفاح الى أن أصبح أكثر شمولية ليمثل الفساد الموجود داخل المجتمع وكافة الأقنعة المزيفة الموجودة داخل العرض ، ويتعمق الموضوع أكثر عندما تكون صفة السفاح مرتبطة بالموت ، حيث إن كل ما سبق يؤدي إلى موت حقيقي لهذا المجتمع ، وأن الفاعل الحقيقي هي كل هذه الخطابات ، لهذا فإن الضامن الحقيقي لوجودها واستمراريتها هو إسقاط التهمة من خلال الإعلام على أناس يشبهون نموذج الزوج ، فالشخصية الرئيسية هنا هي جزء محوري داخل النظام لأن وجوده تحت المراقبة والاتهام طوال الوقت يرسخ النظام ويجعله لا يقع تحت طائلة التهديد والمحاسبة.
vi. خطاب العلم:
وهو تيار مهم داخل عالمنا والذي يمثله "التقني" -على حد تعبير عبد الله العروي- الذي يرى أن كل الحلول متمثلة في العلم الآتي من الغرب ، فرجال الأمن داخل العرض يلجؤون للخبير الأجنبي لاكتشاف السفاح والذي ظهر على أنه مجموعة من الحواس الحيوانية المضخمة من خلال تشخيص صفات الكلب في الشم والسمع ، فالأمن هنا يحاول تبرير اتهاماتهم من خلال أدلة العلم التي قد تكون وهمية من خلال لون الشعر أو الرائحة... إلخ وبالفعل يتم اتهام الزوج ، إلا أن خطاب الإعلام ينقذه في آخر اللحظة وينساق وراءه الأمن مباشرة لأنه الأهم بالنسبة للسلطة ليؤكد على أن فكرة اختيارهم للسفاح قائمة على الوهم والصدفة البحتة ، ويظهر الموضوع بشكل أكثر كوميدية عندما يقتلون اثنين من المواطنين في ذات الوقت. وتكون النهاية بظهور سفاح جديد يبحثون عنه مرة أخرى
وقد استخدم العرض شكل الكوميديا وتقنياتها والتي استغلت بشكل جيد في إبراز مضامينه وتطويعها لإبراز تلك الأفكار التي سبق الحديث عنها ومنها:-
1- التنكر : وهنا تقنية التنكر مستمدة آلياتها من آليات التنكر في الكوميديا ديلارتي المكشوفة طوال الوقت بالنسبة للجمهور ولا تكشفها الشخصيات داخل العرض مما يحقق المفارقة الكوميدية والإحساس بالتفوق عند المتفرج على حد تعبير برجسون ، إن هذه التقنية هي ما تكشف أقنعة السلطة وإكساب الوعي للمتفرج في النهاية، وهذا يعد توظيف جيد للكوميديا داخل العرض لإبراز مفاهيمه.
2- تنميط شخصيات رجال الأمن: وذلك للتأكيد على غياب الأبعاد الإنسانية في هذه الشخصيات وأنها أجساد مجردة في يد النظام يشكلها كما يشاء.
3- كوميديا اللغة: والتي تنبع كلها من رجال الأمن من خلال الآلية والتكرار وكسر تكوين الجملة اللغوية ، وتظهر هذه التقنية بشكل مبالغ فيه ويتم تضخيمها لكشف زيف الخطاب اللغوي للسلطة وإبراز تناقضاته المختلفة مع المجتمع.
4- آلية الحركة: والتي تصور الحصار ومجتمع الرقابة الذي يفرضه رجال الأمن على المواطن
5- التناقض: وهذه التقنية الكوميدية كانت من أهم التقنيات في العرض والتي تبلورت في علاقة الزوج بالزوجة من خلال المواقف المختلفة بينهما حيث يظهر الزوج في موقف الأضعف دوما ويفقد سلطته الذكورية ويظهر هذا من البداية ، فالنظام يريد أن يُسقط أي سلطة ممكن أن تكتسبها مثل تلك الشخصيات ليصبح هو السلطة الوحيدة المحركة للعالم الدرامي ، لهذا يحاول رجال الأمن في أغلب المشاهد التحرش بالزوجة في حضور زوجها أمام عينه. ويؤكد هذا المعنى عنصر الإضاءة الفردية الخاصة على الزوج في بعض اللحظات حيث كانت تصاحبه إضاءة من بعيد على المباني المرتفعة في الخلفية لتصور ضآلته.
وبرغم كل ما جاء - فيما سبق - إلا أن العرض امتاز بتعدد مستويات التلقي والوصول إلى كافة الشرائح إنه عرض بسيط يستطيع الوصول للجمهور بسرعة شديدة لكنه في نفس الوقت امتاز بالعمق وذلك من خلال مجموعة من الممثلين الذين صنعوا هارموني متماسك داخل العرض وحضور متميز خاصة الممثل الشاب أمجد الحجار والذي يعد مشروع ممثل واعد تم اكتشافه، إن الممثلين استطاعوا خلق جو من المرح والكوميديا بحيوية شديدة داخل فضاء القاعة برغم صغرها وقلة الجمهور. هذا إضافة للديكور الذي كان مناسبا للعرض فبرغم بساطته إلا أنه جاء معبرا لهذا العالم الدرامي خاصة في استخدامه مفردات واقعية مجردة لا تحيلنا لمجتمع بعينه. إلا أن من أهم العناصر التي كانت في العرض ولم تكن ملائمة هو عنصر الغناء فقد كان غير متسق مع بنية العرض الكلية ، كما أن هناك بعض المشاهد تحتاج إلى التكثيف ولا يقع الممثلين تحت تأثير التطويل في المشاهد لجذب الضحكات من الجمهور. وأخيرا لايسعنا إلا أن نقول أنه عرض استطاع أن يحقق المتعة ونرجو الاهتمام به في الإعلان عنه ومد فترة عرضه لأنه بالفعل نموذج للعروض الجماهيرية الجيدة
خالد رسلان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق