يمتاز المسرح دوما عن باقي الفنون بالتجدد والاستمرارية وهذا ما يجعله أقرب إلى الحياة في صيرورتها ، فهو مرتبط بلحظة آنية مستمرة ، تجعل النصوص المسرحية ذات الشأن العظيم قابلة لأن تستوعب الحاضر وتناقش قضاياه ، فالدلالات داخل النص تستوعب أكثر من مستوى للتلقي وتصنع معانيها المتولدة من نسقها الخاص بها، إلا أن أحيانا مفهوم التجدد يأخذ مسارا غير صحيح من خلال إقحام دلالات معاصرة قد لا يستوعبها الهيكل الأساسي للنص ، أو حتى بدون تهيئة ، من خلال خلق بناء خاص متسق مع ذاته يستوعب تلك الدلالات ، فغواية الجديد قد توقعنا في شرك بعض الأحيان ، وقد تجعلنا نسير في مسارنا الصحيح أحيانا أخرى. إن هذا الجدل يجعل الزملاء يتهم النقد بالمدرسية وعدم القدرة على استيعاب كل ما هو جديد ، إلا أنني أقول : إن النقد بريء من هذا نظرا لأن البعض يحصر نفسه من خلال طرح رؤى لبناء متماسك ويقحمها دون أن يعيد صياغة ذلك البناء ليجعله أكثر مرونة كي يستوعب ذلك الطرح الجديد ، فلا تطالبون النقد بالتحرر طالما لازال لديكم اعتقادا خاطئا بأن الجديد في الأفكار فقط ، إن الأفكار الجديدة تتولد من بناء متحرر يعيد انتاج المعنى ويشكله.
ودفعنا الحديث عن هذا الجدل هو الطرح الذي قدمه رضا حسنين مخرج عرض "هبط الملاك في بابل" لدورينمات من خلال الإعداد الذي قام بصياغته متولي حامد ، ذلك الطرح الذي يسعى إلى أن تكون بابل هي مصر بشكل مباشر وصريح ، ليس على مستوى الحكاية وأحداثها ، وإنما على مستوى لغات العرض المسرحي والتي تمثلت كالتالي:
- خلفية المنظر التي صورت في بعض الأحيان الكباري والمباني الشاهقة.
- استخدام بعض الأغاني المحلية.
- الإشارات اللفظية الواضحة للواقع المصري كنوع من الكوميديا اللفظية.
- استخدام اللهجة المحلية.
إننا هنا مضطرين بأن نتعامل مع هذا الطرح بناءا على الهيكل الأساسي للنص الذي حبس المعد نفسه داخله ، لنرى مدى اتساقه مع طبيعة الدلالات المطروحة داخل تلك الكوميديا الشعرية التي تميل إلى الفانتازية. والتي تصور لنا أجواء فوضى العالم المعاصر الذي يريد فيه الإنسان، وهو وحيد وأعزل، أن يعثر علي الخير والشر كي ينقذ (إنسانيته) و شخصانيته اللتين ضاعتا في متاهات الحضارة الصناعية ، وسقوط قيمها النابعة من وحشية المجتمعات الرأسمالية . فدورينمات هنا يؤكد على أن القوة المفرطة للأنظمة العظمى الحاكمة يتبعها موت للإنسانية. فـ (بابل) القديمة الحديثة، حيث البنوك والقوانين، والمصاعد الكهربائية، والسياسة، والخير والشر.. إلخ، يأمر الملك فيها بجمع الشحاذين في المدينة وتوظيفهم حتى لا يبقى فيها فقير، وكي يعم الرخاء. ولكن شحاذاً واحداً يدعى (عاقي) يرفض أن يترك مهنته ليصبح موظفاً وتفشل جميع الجهود لإقناعه.وفي تلك الأثناء يهبط الملاك ومعه هدية هي فتاة جميلة أرسلتها السماء إلى أفقر شحاذ. فيستحوذ عليها الملك ويهيم الناس بحبها، فينشدون الأشعار متغنين بجمالها، ويقررون تنصيبها ملكة وإجبار الملك على الزواج بها. وتقبل الفتاة الزواج ولكن من أي شحاذ في المدينة، أو من أي غني يستطيع أن يتخلّى عن ثروته ويصبح شحاذاً. ويحجم الناس، ثم يطالبون بطردها، ويأمر الملك بقتلها إلا أنها تهرب في النهاية مع عاقي الشحاذ. أما في نص العرض وفقا لرؤيته تهرب الفتاة الملاك بمفردها ويبقى عاقي الشحاذ بداعي وطنيته وحبه لهذه البلاد أملا في أن يغير شيئا من ذلك الفساد الإنساني ليتحول مونولوجه الأخير إلى خطاب مباشر موجه للجمهور ، فهو يحب الوطن أكثر من السماء وملاكها القادم إليه ، والذي اعتبرها العرض خلاصا مزيف يريد الشعب أن يتكئ عليه دون أن يتحرك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق