جسد ناري وعقل بلا حدود .. هذا ما اتسمت به شخصية زينب "الزباء" ملكة تدمر في القرن الأول الميلادي ، تلك الشخصية التي حملت طبيعة خاصة وظروف محيطة بها جعلت من حكايتها الخاصة محملة بزخم من الدلالات القابلة لإعادة إنتاجها عبر مستويات متعددة من البنيات الحكائية المختلفة ، وهذا من خلال حضورها في بنية التاريخ كامرأة انتصرت على الفرس وواجهت الروم دفاعًا عن بلادها من جهة ، وامرأة منتقمة لأبيها " عمر بن ظرب" المقتول بيد " جذيمة الوضاح " ملك الحيرة داخل بنية الحكاية الشعبية في الموروث الثقافي العربي من جهة أخرى.
وقد استدعى "محمود دياب" هذه الشخصية ليصيغها في بنية درامية لها منطقها الخاص من خلال نص " أرض لا تنبت الزهور" مستفيدًا من الدلالات المطروحة في البنيات الحكائية السابق ذكرها لطرح منظوره الخاص في حبكة تصيغ بعدًا جديدًا لهذا العالم، فها هي الزباء تحمل صفاتها كامرأة فوق العادة كما طرحها التاريخ ، داخل رحلة الثأر المستمرة كما في المخيلة العربية . فبين حكاية التاريخ والحكاية الشعبية يتحرك دياب ليضع بصمته الدرامية الخاصة والتي ظهرت في أوائل الثمانينات ، وهو تاريخ له مغزاه ولا نستطيع أن نغفله بأي حال من الأحوال عندما نتناول رؤية دياب ، التي لا يتحقق لها الاكتمال بدون الرؤية الموسعة التي تشمل السياق الاجتماعي والتاريخي والتي يجب أن نكون على وعي بها أثناء قراءتنا لتلك البنية الدرامية ، فقد انتشرت في تلك الفترة شعارات السلام وإمكانية تحقيق قيمه بشكل فعلي على أرض الواقع ، وقد طرح دياب هذه القضية من خلال علاقة الزباء بقاتلي أبيها وإمكانية خلق السلام معهم.
وبداية من مصدر الحكاية ومرورًا بالخطاب الدرامي الذي يطرحه محمود دياب في الثمانينات يأتينا المخرج شادي سرور ليقدم نص "أرض لا تنبت الزهور " من خلال فرقة مسرح الطليعة في العقد الأول من الألفية الجديدة ، تلك الألفية التي تشعبت فيها الأفكار المطروحة في الثمانينات وازدادت تعقيدًا ، فماذا يمكن أن يقدم العرض من قراءة جديدة يتوجه بها لجمهور الآن؟
ذلك السؤال الجوهري الذي لابد منه حتى نستطيع أن نكتشف مدى فاعلية العرض في (هنا / الآن).
وتظهر الرؤية الخاصة بالعرض منذ بدايته من خلال الصورة السينوغرافية التي قام بصياغتها الفنان مهندس الديكور محمد سعد ببراعة شديدة حيث كان لها دور فعال في جعل كل عناصر الفضاء داخل نسيج واحد متكامل ومتنوع. مستوحيًا فكرة النص في مسماه " أرض لا تنبت الزهور" بأن جعل فضاء العرض تتكون مفرداته من كل ما هو بدائل للزهور من حيث الشكل والمعنى مثل: الصبار ، اللبلاب والذي وُزِّع في كل أرجاء خشبة المسرح ، والأحجار ، والأشكال المجردة التي تأخذ في هيكلها الخارجي تعرجات الثعابين على طرفي منتصف الخشبة من خلال أعمدة القصر والتي تُغطى في بعض اللحظات الدرامية ، كما يغلب على الفضاء اللون الحجري الأصفر الباهت .
إن هذا الفضاء وعناصره المكونة له يعطينا صورة بلاغية لهذا العالم المقفر والذي يصور تاريخ الكراهية الممتد عبر الأجيال وتراكم مشاعر الحقد من خلال ذلك البناء الضخم في الصورة المسرحية والذي تسري فيه روح جافة تفتقد لكل معالم الحياة ، مما يوضح لنا صعوبة تغيير ملامح هذا العالم ، ويتأكد هذا المعنى أكثر مع تقدم الحدث الدرامي والذي يعكس كيف أن ملامح الصورة المسرحية وآليات تكوينها يتحكم فيها منظور زينب الزباء والذي يتشكل بناءً على المعطيات التاريخية والاجتماعية التي سيطرت على وعيها للعالم ، فأوهام المعتقدات القبلية أصبحت حقيقة مسيطرة على الفضاء المسرحي بالكامل ، مما يؤكد على سطوة الزباء على هذا الفضاء من ناحية ، ومن ناحية أخرى التأكيد على أن تاريخ الكراهية المسيطر على هذا العالم إنما نتاج لآليات معتقداتنا ووهم ننسجه بأنفسنا.
وتقنية المنظور تتجسد منذ البداية من خلال الديكور داخل الفضاء والذي جسد حالة الصراع الداخلي التي تعيشه الزباء عبر الأحداث الدرامية ويتشكل ويعيد تكوين نفسه في كل مرحلة ليتحول إلى لقطة ذاتية (بالمفهوم السينمائي) تصنعه الزباء بنفسها ، فنجد المشاهد الأولى تعبر عن وجود مكاني مرعب تستقبل فيه الزباء لقاتل أبيها في طقس دموي ، فتبرز ملامح القسوة في الديكور والتي سبق أن ذكرناها من خلال عنصر الإضاءة التي تعاملت مع كل مفردة ديكورية على أنها كيان حي مستقل ومحرك للحدث ، داخل هذا الحفل الشعائري الذي أقامته الزباء وأسقطها في جرم التباهي وجعل من القصر معادلا لروحها الخربة، لكن في لحظات أخرى عندما تعيش حالة الصفاء وتشعر بأنوثتها وتتلمس مشاعر الحب نجد أن هذا العالم القاسي يتوارى وقد تجسد ذلك من خلال الأقمشة الشفافة التي تخبئ كيانات الثعابين التي تشير إلى قسوة الثأر داخل نفس الزباء ، ويأتي ذلك في أكثر من مشهد مثل : حب طفولتها لزبداي – ضعفها أمام حب عمرو بن عدي – احتياجها بأن تشعر بأنوثتها.
ويتأكد هذا المعنى أكثر في تلك التقنية المستخدمة عندما تعود كيانات الثعابين في الظهور في النهاية عندما تدرك الزباء أن حبها لعمرو بن عدي مستحيل في أرض ارتوت بالحقد لسنوات طويلة ، فهذا التاريخ أصبح قابعًا في لاوعيها والمنعكس من لا وعي الجماعة .
إن هذه الآلية التي تحدثنا عنها في عنصر الديكور والتي تعتمد على اللقطة الذاتية للزباء - كتكنيك سينمائي- هي السمة المسيطرة على العرض بالكامل والمتحكمة في كافة عناصره ، ويظهر هذا بشدة من خلال عالم الزباء الداخلي الذي يتجسد على خشبة المسرح والغير مدرك حسيًا بالنسبة لبقية الشخصيات الدرامية (الزباء هنا تقوم بعملية التبئير) فهذا العالم عكس تقلبات الشخصية وصراعاتها النفسية وشكل الرؤية النهائية للعرض، وأظهر المخرج شادي سرور هذا العالم الداخلي من خلال : -
1- كورس الممثلين والذي كان يجسد حركة الأحجار من الأرض ليصور كم المعاناة التي تعانيها تلك الأرض وقد عبرت عن هذا المعنى مصممة الأزياء "هبة عبد الحميد" بشكل جيد بتصميمها لأزياء تلك الشخصيات والتي جعلتها أقرب للتماثيل الحجرية المتحركة وجاءت معبرة في سياق العرض لتصور كيف أن هذا العالم الذي تعيشه الزباء عالم تنعدم فيه الحياة بلا مشاعر، وأضاف إلى المعنى أكثر مصمم الدراما الحركية أيمن مصطفى الذي جعل من كورس الأحجار يقومون بتعبير حركي يصور ويؤكد حالة المعاناة التي سبق ذكرها، وتعد تلك الصورة إضافة للنص في الحقيقة ذلك لكون دياب كان يحرك وقائع مسرحيته بين القصور الملكية ، فلا مكان آخر غير قصري الزباء بتدمر وغريمها عمرو بن عدي في الحيرة ، أما في العرض فتعكس هذه الشخصيات صورة العالم الخارجي والذي يعد مرآة موسعة لما يعيشه القصر ، وأيضا التأكيد على أن أوهام الزباء ومنظورها هو وليد هذا العالم ومنبثق منه في الأساس لهذا نجد هذا الكورس يشغل مراكز القوى في فراغ خشبة المسرح فحركته تنحصر في المستويات الرأسية وخاصة قمة منتصف المسرح في العمق ، تلك المنطقة في الفضاء التي حاول عمرو بن عدي أن يسيطر عليها في مشهد الأرجوحة من خلال محاولاته في إقناع الزباء بتغيير ميراث أجدادهم السلبي بدعوى الحب والزواج إلا إنه يفشل في النهاية وذلك بهروب الزباء لمقدمة المسرح مفسحة تلك القمة لأوهامها من جديد لتقتل نفسها أخيرا.
2- روح الشر / العرافة : وقد قامت بتجسيد الشخصيتين الفنانة منال زكي ببراعة عبر التنقل بين الشخصيتين في فترات قصيرة وإظهار توجه كل شخصية وعلاقتها بالزباء. إن كلا الشخصيتين داخل العرض يعيشان في عقل الزباء ويسيطران على حركتها داخل هذا العالم، فروح الشر هنا هي الشخصية التي تعيش داخل الزباء تلك الشخصية التي أفرزها المجتمع وآليات تفكيره ، وقد جعلها المخرج ملازمة للعرافة صاحبة النبوءة لأن كلاهما يمثلان روح القبلية والتي جعلت عقل الزباء عاجزًا عن الانفلات من القدر المكتوب لها لتعيش في كابوس ضاغط عليها في انتظار المنتقم القادم لا محالة ليثأر لمن قتلته جذيمة الوضاح ، لهذا تصبح روح الشر ملازمة للعرافة أمر له مصداقيته كمبرر في الدفاع عن النفس من ناحية ، ومن ناحية أخرى دلالة النبوءة في استمرارية هذا العالم الخرب والذي يمحو شخصية الزباء الفطرية كأنثى.
3- الزباء الطفلة والتي رأت مقتل الأب ، إن تلك الشخصية التي تستعيدها الزباء في الفضاء تمثل بداية نشوء المعتقدات القبلية في وعيها ، إن صورة الطفلة وآلامها إبان مقتل الأب ترسخ لمشاعر الحقد وتكمل منظور الزباء الذي تغيب عنه الرؤية لمستقبل يعم فيه السلام.
4- روح جذيمة الوضاح التي تهيم في الفضاء بعد مقتله للتأكيد على أن الثأر قادم لا محالة ليزيد من جو العرض المشحون بالضغينة ، وقد ساعد على ذلك الفنان ياسر علي ماهر والذي قام بدور جذيمة من خلال أدائه في المشهد الأول الذي اتسم بالاتزان وتقبل فكرة الثأر كجزء من منظومة هذا العالم ، فهو مرحب بالموت بمنتهى القوة ودون ضعف ومؤمن بمجيء مَن يثأر له.
يأتي في مقابل منظور الزباء منظور عمرو بن عدي والذي جسده شادي سرور ، وقد حاول هذا المنظور أن يتسرب تدريجيا محاولا فرض سيطرته ، بأن يتقاسم الفضاء مع منظور الزباء للعالم ، وقد تم ذلك من خلال استخدام تقنية المونتاج المتوازي التي وظفت جيدا في العرض حرفيًا / بنائيا ، و فكريا / تكوين المعنى ، فعلى الجانب الحِرفي ساعدت تلك التقنية في خلق إيقاع سريع للمشاهد التي اعتمدت عليها وتكثيف للنص الدرامي ، أما على الجانب الفكري فكان لها أثرها في الكشف عن أن كلاهما يعيشان في عالم واحد وهذا يطرح احتمالية توحدهما خاصة بعد تقاسمهما كرسي العرش داخل المنظر ، فيصبح تشكيل الفضاء المسرحي بهذه الطريقة عنصر مساعد لتحقيق منظور عمرو بن عدي ذلك الشاعر المثقف والذي يدرك أهمية السلام الاجتماعي ، إلا إنه يفشل في النهاية في تحقيق ما يطمح إليه في التخلص من الماضي ، فقد غاب صوت عمرو بن عدي أمام الحضور الطاغي لأوهام الزباء التي استولت على خشبة المسرح/القصر/المنظومة الحاكمة ، وسيطرتها على التاريخ بشكل كامل ، من ماضي يغلب عليه الطابع العدائي ، وحاضر مستمر في انتظار الثأر ، ومستقبل يشكك في مصداقية عمرو بن عدي ، وهذا ما يجعل الزباء تلقي بمقولتها المشهورة قبل موتها " بيدي لا بيد عمرو" ، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى خطاب دياب الدرامي الذي يعطي احتمالية لمستقبل أفضل للأجيال القادمة، فالزباء تضحي بنفسها وتقدم نفسها قربانًا لخلاص ذلك العالم ولتتخلص من أوهامها وقدرها المحتوم لها ولعائلتها وبالتالي لن يثأر أحد من عمرو بن عدي ، وفي ذات الوقت الأمل الموجود في الطفل ابن زبيبة أخت الزباء والذي سيرث السلطة ولن يتحمل أعباء الماضي بعد تطهيره ، إلا أن خطاب العرض المسرحي جاء أكثر تشاؤما من خلال الصورة المسرحية في النهاية التي سيطر عليها أوهام الزباء حتى بعد مماتها (روح جذيمة – الزباء الطفلة – مشهد قتل الأب – العرافة – روح الشر ) ، إضافة إلى مناهضي أفكار عمرو بن عدي في عالمه مثل قصير بن سعيد ، والرداء الأبيض الذي ارتدته الزباء فقد جدواه ، فمن الصعب أن تكون نفسها كأنثى، فهذه الصورة تفيدنا بعدم جدوى الخلاص الفردي الذي قامت به الزباء ، فالأزمة هنا أزمة العقول التي تعيش في المجتمعين – والتي تنعكس بطبيعة الحال على جمهور الآن- حيث إن الأوهام تسيطر على عقول الجميع وليس الزباء فقط.
وقد صنع العرض حالة جيدة من خلال المنهج الإخراجي الذي يعتمد عليه شادي سرور والذي يغلب عليه الطابع التعبيري والمتمكن منه ، كما أن الكورس أضاف كثيرا للمشاهد الطقسية من خلال الصوت الجماعي والتعبير الحركي المصاحب، إلا أن العرض إخراجيا افتقد للحالة التي يعتمد عليها في بعض الأحيان ، وجاء ذلك بسبب :
1- التطويل في كثير من المشهد والاهتمام بحوارات ثنائية كان من الممكن الاستغناء عنها وذلك حفاظا على حالة العرض ، لهذا كان يجب تكثيف العرض أكثر والتركيز على منظور الزباء – وهو رؤية العرض التي اعتمدت عليها- للعالم دون الخوض في تفاصيل أخرى.
2- تكرار الكثير من التقنيات في العرض للتأكيد على نفس الفكرة ، وجاء ذلك بسبب أن المخرج أرهق نفسه بأن يضع كل شيء منذ البداية فوجد نفسه بعد ذلك أنه لا يقدم الجديد ، وظهر هذا في : (التعبير الحركي- دلالة تواري كيانات الثعابين-جمل الكورس لا تضيف جديد بعد الربع الأول في العرض سوى أنها مجرد جمل لها أثر شاعري – التأكيد على التكنيك السينمائي في البداية رغم استخدامه وتوظيفه داخل العرض)
3- غواية الكوميديا عند بعض الممثلين ظهرت بشكل مناقض لحالة العرض الكلية وكانت مقحمة عليه وأدت إلى أن بعض الممثلين يفهمون دورهم بشكل خاطئ وأكبر نموذج على ذلك الفنان خالد النجدي الذي قام بشخصية قصير بن سعيد ، إلا أن هذا الحكم لا ينسحب على كافة مناطق الترويح الكوميدي في العرض ، حيث إننا نجد الممثل الشاب محمد الشربيني الذي قام بشخصية ابن حنكل الخمار يقدم كوميديا بشكل راقي ومناسب للمشهد الذي يسبق طقسية مقتل جذيمة.
4- التشتيت البصري في بعض المشاهد التي تتسم بالحركة الجماعية خاصة ظهور الأوهام من عقل الزباء في مشاهد المونتاج المتوازي.
ولكن أخيرًا أريد أن أشير إلى نقطة مضيئة في هذا العرض وهي خاصة بعنصر التمثيل النسائي عبر شخصية الزباء التي قامت بها الفنانة إيمان إمام والتي ظهرت كممثلة مسرح تمتلك موهبة حقيقية وجدت منفذ لها تلك الشخصية الصعبة المليئة بالتناقضات والصراعات الداخلية ، فقد استطاعت أن تظهر كافة جوانب شخصية الزباء وتحولاتها عبر العرض وتعاملت مع ذلك بشكل شديد الذكاء خاصة من خلال: أولا: ظهور مشاعر الأنثى بشكل تدريجي عبر العرض ، والتي هي بطبيعة الحال مكبوتة ، وأوضحتها من خلال طبقات صوتها وتنويعاته وحركتها الجسدية ، ثانيا: مشاهد الحب التي تسترجعها مع زبداي بشيء من الحنين ،ثالثا: التنقل من حالة لحالة بوعي شديد ، فحالة الانتقام الهستيرية التي أوقعتها في تجاوز الاعتدال ، مختلفة عن حالة الانتظار التي يسودها الهدوء في مواجهة المؤامرة حينا ، والاشتياق كأنثى حينا آخر ، رابعا: التوتر الداخلي العنيف في محاولاتها للتخلص من الشخصية التي أكسبها لها المجتمع ومعتقداته والمغايرة لطبيعتها.
وختاما لا يسعنا أن نقول سوى أننا شاهدنا عرض جيد في مجمله ومصحوب برؤية من المخرج شادي سرور والمتمكن من أدواته بما يتلاءم مع المنهج الذي يستخدمه ، مع أني أنصحه ألا يمثل في العروض التي يخرجها ، وذلك لأن أسلوبه كمخرج أسلوب يحتاج لتركيز يومي مع كل ليلة عرض حتى يتابع الحالة المقدمة مع الجمهور خاصة وأن المشاهد التي يمثلها من أهم مشاهد العرض وخاصة المشهد الأخير.
K-Raslan@hotmail.com
وقد استدعى "محمود دياب" هذه الشخصية ليصيغها في بنية درامية لها منطقها الخاص من خلال نص " أرض لا تنبت الزهور" مستفيدًا من الدلالات المطروحة في البنيات الحكائية السابق ذكرها لطرح منظوره الخاص في حبكة تصيغ بعدًا جديدًا لهذا العالم، فها هي الزباء تحمل صفاتها كامرأة فوق العادة كما طرحها التاريخ ، داخل رحلة الثأر المستمرة كما في المخيلة العربية . فبين حكاية التاريخ والحكاية الشعبية يتحرك دياب ليضع بصمته الدرامية الخاصة والتي ظهرت في أوائل الثمانينات ، وهو تاريخ له مغزاه ولا نستطيع أن نغفله بأي حال من الأحوال عندما نتناول رؤية دياب ، التي لا يتحقق لها الاكتمال بدون الرؤية الموسعة التي تشمل السياق الاجتماعي والتاريخي والتي يجب أن نكون على وعي بها أثناء قراءتنا لتلك البنية الدرامية ، فقد انتشرت في تلك الفترة شعارات السلام وإمكانية تحقيق قيمه بشكل فعلي على أرض الواقع ، وقد طرح دياب هذه القضية من خلال علاقة الزباء بقاتلي أبيها وإمكانية خلق السلام معهم.
وبداية من مصدر الحكاية ومرورًا بالخطاب الدرامي الذي يطرحه محمود دياب في الثمانينات يأتينا المخرج شادي سرور ليقدم نص "أرض لا تنبت الزهور " من خلال فرقة مسرح الطليعة في العقد الأول من الألفية الجديدة ، تلك الألفية التي تشعبت فيها الأفكار المطروحة في الثمانينات وازدادت تعقيدًا ، فماذا يمكن أن يقدم العرض من قراءة جديدة يتوجه بها لجمهور الآن؟
ذلك السؤال الجوهري الذي لابد منه حتى نستطيع أن نكتشف مدى فاعلية العرض في (هنا / الآن).
وتظهر الرؤية الخاصة بالعرض منذ بدايته من خلال الصورة السينوغرافية التي قام بصياغتها الفنان مهندس الديكور محمد سعد ببراعة شديدة حيث كان لها دور فعال في جعل كل عناصر الفضاء داخل نسيج واحد متكامل ومتنوع. مستوحيًا فكرة النص في مسماه " أرض لا تنبت الزهور" بأن جعل فضاء العرض تتكون مفرداته من كل ما هو بدائل للزهور من حيث الشكل والمعنى مثل: الصبار ، اللبلاب والذي وُزِّع في كل أرجاء خشبة المسرح ، والأحجار ، والأشكال المجردة التي تأخذ في هيكلها الخارجي تعرجات الثعابين على طرفي منتصف الخشبة من خلال أعمدة القصر والتي تُغطى في بعض اللحظات الدرامية ، كما يغلب على الفضاء اللون الحجري الأصفر الباهت .
إن هذا الفضاء وعناصره المكونة له يعطينا صورة بلاغية لهذا العالم المقفر والذي يصور تاريخ الكراهية الممتد عبر الأجيال وتراكم مشاعر الحقد من خلال ذلك البناء الضخم في الصورة المسرحية والذي تسري فيه روح جافة تفتقد لكل معالم الحياة ، مما يوضح لنا صعوبة تغيير ملامح هذا العالم ، ويتأكد هذا المعنى أكثر مع تقدم الحدث الدرامي والذي يعكس كيف أن ملامح الصورة المسرحية وآليات تكوينها يتحكم فيها منظور زينب الزباء والذي يتشكل بناءً على المعطيات التاريخية والاجتماعية التي سيطرت على وعيها للعالم ، فأوهام المعتقدات القبلية أصبحت حقيقة مسيطرة على الفضاء المسرحي بالكامل ، مما يؤكد على سطوة الزباء على هذا الفضاء من ناحية ، ومن ناحية أخرى التأكيد على أن تاريخ الكراهية المسيطر على هذا العالم إنما نتاج لآليات معتقداتنا ووهم ننسجه بأنفسنا.
وتقنية المنظور تتجسد منذ البداية من خلال الديكور داخل الفضاء والذي جسد حالة الصراع الداخلي التي تعيشه الزباء عبر الأحداث الدرامية ويتشكل ويعيد تكوين نفسه في كل مرحلة ليتحول إلى لقطة ذاتية (بالمفهوم السينمائي) تصنعه الزباء بنفسها ، فنجد المشاهد الأولى تعبر عن وجود مكاني مرعب تستقبل فيه الزباء لقاتل أبيها في طقس دموي ، فتبرز ملامح القسوة في الديكور والتي سبق أن ذكرناها من خلال عنصر الإضاءة التي تعاملت مع كل مفردة ديكورية على أنها كيان حي مستقل ومحرك للحدث ، داخل هذا الحفل الشعائري الذي أقامته الزباء وأسقطها في جرم التباهي وجعل من القصر معادلا لروحها الخربة، لكن في لحظات أخرى عندما تعيش حالة الصفاء وتشعر بأنوثتها وتتلمس مشاعر الحب نجد أن هذا العالم القاسي يتوارى وقد تجسد ذلك من خلال الأقمشة الشفافة التي تخبئ كيانات الثعابين التي تشير إلى قسوة الثأر داخل نفس الزباء ، ويأتي ذلك في أكثر من مشهد مثل : حب طفولتها لزبداي – ضعفها أمام حب عمرو بن عدي – احتياجها بأن تشعر بأنوثتها.
ويتأكد هذا المعنى أكثر في تلك التقنية المستخدمة عندما تعود كيانات الثعابين في الظهور في النهاية عندما تدرك الزباء أن حبها لعمرو بن عدي مستحيل في أرض ارتوت بالحقد لسنوات طويلة ، فهذا التاريخ أصبح قابعًا في لاوعيها والمنعكس من لا وعي الجماعة .
إن هذه الآلية التي تحدثنا عنها في عنصر الديكور والتي تعتمد على اللقطة الذاتية للزباء - كتكنيك سينمائي- هي السمة المسيطرة على العرض بالكامل والمتحكمة في كافة عناصره ، ويظهر هذا بشدة من خلال عالم الزباء الداخلي الذي يتجسد على خشبة المسرح والغير مدرك حسيًا بالنسبة لبقية الشخصيات الدرامية (الزباء هنا تقوم بعملية التبئير) فهذا العالم عكس تقلبات الشخصية وصراعاتها النفسية وشكل الرؤية النهائية للعرض، وأظهر المخرج شادي سرور هذا العالم الداخلي من خلال : -
1- كورس الممثلين والذي كان يجسد حركة الأحجار من الأرض ليصور كم المعاناة التي تعانيها تلك الأرض وقد عبرت عن هذا المعنى مصممة الأزياء "هبة عبد الحميد" بشكل جيد بتصميمها لأزياء تلك الشخصيات والتي جعلتها أقرب للتماثيل الحجرية المتحركة وجاءت معبرة في سياق العرض لتصور كيف أن هذا العالم الذي تعيشه الزباء عالم تنعدم فيه الحياة بلا مشاعر، وأضاف إلى المعنى أكثر مصمم الدراما الحركية أيمن مصطفى الذي جعل من كورس الأحجار يقومون بتعبير حركي يصور ويؤكد حالة المعاناة التي سبق ذكرها، وتعد تلك الصورة إضافة للنص في الحقيقة ذلك لكون دياب كان يحرك وقائع مسرحيته بين القصور الملكية ، فلا مكان آخر غير قصري الزباء بتدمر وغريمها عمرو بن عدي في الحيرة ، أما في العرض فتعكس هذه الشخصيات صورة العالم الخارجي والذي يعد مرآة موسعة لما يعيشه القصر ، وأيضا التأكيد على أن أوهام الزباء ومنظورها هو وليد هذا العالم ومنبثق منه في الأساس لهذا نجد هذا الكورس يشغل مراكز القوى في فراغ خشبة المسرح فحركته تنحصر في المستويات الرأسية وخاصة قمة منتصف المسرح في العمق ، تلك المنطقة في الفضاء التي حاول عمرو بن عدي أن يسيطر عليها في مشهد الأرجوحة من خلال محاولاته في إقناع الزباء بتغيير ميراث أجدادهم السلبي بدعوى الحب والزواج إلا إنه يفشل في النهاية وذلك بهروب الزباء لمقدمة المسرح مفسحة تلك القمة لأوهامها من جديد لتقتل نفسها أخيرا.
2- روح الشر / العرافة : وقد قامت بتجسيد الشخصيتين الفنانة منال زكي ببراعة عبر التنقل بين الشخصيتين في فترات قصيرة وإظهار توجه كل شخصية وعلاقتها بالزباء. إن كلا الشخصيتين داخل العرض يعيشان في عقل الزباء ويسيطران على حركتها داخل هذا العالم، فروح الشر هنا هي الشخصية التي تعيش داخل الزباء تلك الشخصية التي أفرزها المجتمع وآليات تفكيره ، وقد جعلها المخرج ملازمة للعرافة صاحبة النبوءة لأن كلاهما يمثلان روح القبلية والتي جعلت عقل الزباء عاجزًا عن الانفلات من القدر المكتوب لها لتعيش في كابوس ضاغط عليها في انتظار المنتقم القادم لا محالة ليثأر لمن قتلته جذيمة الوضاح ، لهذا تصبح روح الشر ملازمة للعرافة أمر له مصداقيته كمبرر في الدفاع عن النفس من ناحية ، ومن ناحية أخرى دلالة النبوءة في استمرارية هذا العالم الخرب والذي يمحو شخصية الزباء الفطرية كأنثى.
3- الزباء الطفلة والتي رأت مقتل الأب ، إن تلك الشخصية التي تستعيدها الزباء في الفضاء تمثل بداية نشوء المعتقدات القبلية في وعيها ، إن صورة الطفلة وآلامها إبان مقتل الأب ترسخ لمشاعر الحقد وتكمل منظور الزباء الذي تغيب عنه الرؤية لمستقبل يعم فيه السلام.
4- روح جذيمة الوضاح التي تهيم في الفضاء بعد مقتله للتأكيد على أن الثأر قادم لا محالة ليزيد من جو العرض المشحون بالضغينة ، وقد ساعد على ذلك الفنان ياسر علي ماهر والذي قام بدور جذيمة من خلال أدائه في المشهد الأول الذي اتسم بالاتزان وتقبل فكرة الثأر كجزء من منظومة هذا العالم ، فهو مرحب بالموت بمنتهى القوة ودون ضعف ومؤمن بمجيء مَن يثأر له.
يأتي في مقابل منظور الزباء منظور عمرو بن عدي والذي جسده شادي سرور ، وقد حاول هذا المنظور أن يتسرب تدريجيا محاولا فرض سيطرته ، بأن يتقاسم الفضاء مع منظور الزباء للعالم ، وقد تم ذلك من خلال استخدام تقنية المونتاج المتوازي التي وظفت جيدا في العرض حرفيًا / بنائيا ، و فكريا / تكوين المعنى ، فعلى الجانب الحِرفي ساعدت تلك التقنية في خلق إيقاع سريع للمشاهد التي اعتمدت عليها وتكثيف للنص الدرامي ، أما على الجانب الفكري فكان لها أثرها في الكشف عن أن كلاهما يعيشان في عالم واحد وهذا يطرح احتمالية توحدهما خاصة بعد تقاسمهما كرسي العرش داخل المنظر ، فيصبح تشكيل الفضاء المسرحي بهذه الطريقة عنصر مساعد لتحقيق منظور عمرو بن عدي ذلك الشاعر المثقف والذي يدرك أهمية السلام الاجتماعي ، إلا إنه يفشل في النهاية في تحقيق ما يطمح إليه في التخلص من الماضي ، فقد غاب صوت عمرو بن عدي أمام الحضور الطاغي لأوهام الزباء التي استولت على خشبة المسرح/القصر/المنظومة الحاكمة ، وسيطرتها على التاريخ بشكل كامل ، من ماضي يغلب عليه الطابع العدائي ، وحاضر مستمر في انتظار الثأر ، ومستقبل يشكك في مصداقية عمرو بن عدي ، وهذا ما يجعل الزباء تلقي بمقولتها المشهورة قبل موتها " بيدي لا بيد عمرو" ، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى خطاب دياب الدرامي الذي يعطي احتمالية لمستقبل أفضل للأجيال القادمة، فالزباء تضحي بنفسها وتقدم نفسها قربانًا لخلاص ذلك العالم ولتتخلص من أوهامها وقدرها المحتوم لها ولعائلتها وبالتالي لن يثأر أحد من عمرو بن عدي ، وفي ذات الوقت الأمل الموجود في الطفل ابن زبيبة أخت الزباء والذي سيرث السلطة ولن يتحمل أعباء الماضي بعد تطهيره ، إلا أن خطاب العرض المسرحي جاء أكثر تشاؤما من خلال الصورة المسرحية في النهاية التي سيطر عليها أوهام الزباء حتى بعد مماتها (روح جذيمة – الزباء الطفلة – مشهد قتل الأب – العرافة – روح الشر ) ، إضافة إلى مناهضي أفكار عمرو بن عدي في عالمه مثل قصير بن سعيد ، والرداء الأبيض الذي ارتدته الزباء فقد جدواه ، فمن الصعب أن تكون نفسها كأنثى، فهذه الصورة تفيدنا بعدم جدوى الخلاص الفردي الذي قامت به الزباء ، فالأزمة هنا أزمة العقول التي تعيش في المجتمعين – والتي تنعكس بطبيعة الحال على جمهور الآن- حيث إن الأوهام تسيطر على عقول الجميع وليس الزباء فقط.
وقد صنع العرض حالة جيدة من خلال المنهج الإخراجي الذي يعتمد عليه شادي سرور والذي يغلب عليه الطابع التعبيري والمتمكن منه ، كما أن الكورس أضاف كثيرا للمشاهد الطقسية من خلال الصوت الجماعي والتعبير الحركي المصاحب، إلا أن العرض إخراجيا افتقد للحالة التي يعتمد عليها في بعض الأحيان ، وجاء ذلك بسبب :
1- التطويل في كثير من المشهد والاهتمام بحوارات ثنائية كان من الممكن الاستغناء عنها وذلك حفاظا على حالة العرض ، لهذا كان يجب تكثيف العرض أكثر والتركيز على منظور الزباء – وهو رؤية العرض التي اعتمدت عليها- للعالم دون الخوض في تفاصيل أخرى.
2- تكرار الكثير من التقنيات في العرض للتأكيد على نفس الفكرة ، وجاء ذلك بسبب أن المخرج أرهق نفسه بأن يضع كل شيء منذ البداية فوجد نفسه بعد ذلك أنه لا يقدم الجديد ، وظهر هذا في : (التعبير الحركي- دلالة تواري كيانات الثعابين-جمل الكورس لا تضيف جديد بعد الربع الأول في العرض سوى أنها مجرد جمل لها أثر شاعري – التأكيد على التكنيك السينمائي في البداية رغم استخدامه وتوظيفه داخل العرض)
3- غواية الكوميديا عند بعض الممثلين ظهرت بشكل مناقض لحالة العرض الكلية وكانت مقحمة عليه وأدت إلى أن بعض الممثلين يفهمون دورهم بشكل خاطئ وأكبر نموذج على ذلك الفنان خالد النجدي الذي قام بشخصية قصير بن سعيد ، إلا أن هذا الحكم لا ينسحب على كافة مناطق الترويح الكوميدي في العرض ، حيث إننا نجد الممثل الشاب محمد الشربيني الذي قام بشخصية ابن حنكل الخمار يقدم كوميديا بشكل راقي ومناسب للمشهد الذي يسبق طقسية مقتل جذيمة.
4- التشتيت البصري في بعض المشاهد التي تتسم بالحركة الجماعية خاصة ظهور الأوهام من عقل الزباء في مشاهد المونتاج المتوازي.
ولكن أخيرًا أريد أن أشير إلى نقطة مضيئة في هذا العرض وهي خاصة بعنصر التمثيل النسائي عبر شخصية الزباء التي قامت بها الفنانة إيمان إمام والتي ظهرت كممثلة مسرح تمتلك موهبة حقيقية وجدت منفذ لها تلك الشخصية الصعبة المليئة بالتناقضات والصراعات الداخلية ، فقد استطاعت أن تظهر كافة جوانب شخصية الزباء وتحولاتها عبر العرض وتعاملت مع ذلك بشكل شديد الذكاء خاصة من خلال: أولا: ظهور مشاعر الأنثى بشكل تدريجي عبر العرض ، والتي هي بطبيعة الحال مكبوتة ، وأوضحتها من خلال طبقات صوتها وتنويعاته وحركتها الجسدية ، ثانيا: مشاهد الحب التي تسترجعها مع زبداي بشيء من الحنين ،ثالثا: التنقل من حالة لحالة بوعي شديد ، فحالة الانتقام الهستيرية التي أوقعتها في تجاوز الاعتدال ، مختلفة عن حالة الانتظار التي يسودها الهدوء في مواجهة المؤامرة حينا ، والاشتياق كأنثى حينا آخر ، رابعا: التوتر الداخلي العنيف في محاولاتها للتخلص من الشخصية التي أكسبها لها المجتمع ومعتقداته والمغايرة لطبيعتها.
وختاما لا يسعنا أن نقول سوى أننا شاهدنا عرض جيد في مجمله ومصحوب برؤية من المخرج شادي سرور والمتمكن من أدواته بما يتلاءم مع المنهج الذي يستخدمه ، مع أني أنصحه ألا يمثل في العروض التي يخرجها ، وذلك لأن أسلوبه كمخرج أسلوب يحتاج لتركيز يومي مع كل ليلة عرض حتى يتابع الحالة المقدمة مع الجمهور خاصة وأن المشاهد التي يمثلها من أهم مشاهد العرض وخاصة المشهد الأخير.
K-Raslan@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق