تعد مهنة الناقد من أكثر المهن خطورة وحساسية في آن واحد ، رغم ذلك فهي ممتعة تثير داخلك خليط من النشوة والارتياح ، خاصة وأن حكمك على الأشياء وتحديد مقدار القيمة فيها لا يعرضك للمساءلة أو مراجعة النفس في طريقة التفكير مثلما يحدث مع القاضي على سبيل المثال .. فأنت المرجع الأول والأخير في تحديد مقدار القيمة ، لكن هناك مرات قليلة تفقد هذا الإحساس ، نتيجة للدهشة التي تتعرض لها وأنت تشاهد عملا يفرض عليك جمالياته الخاصة التي تتوالد داخله بمنتهى البساطة والتلقائية ، حينها تجد أن المعايير المسبقة عديمة الجدوى ، وتتحول إلى مشاهد عادي .. تحب وتكره..تنبهر ..تنحاز لذلك العمل الفني ، هنا تكون المغامرة التي يخوضها الناقد.. بعد أن تخلى عن سلطته التي تفرض طريقة تفكير محددة .. وهنا أيضا يلومك الجميع وتتعرض للمساءلة .. فيطالبك الجميع أن تعود لموضوعيتك المعهودة. إلا أنك تجد نفسك مضطرا إلى أن تخوض المغامرة ، فهناك تجارب فنية تفرض عليك هذا المنطق خاصة ما إذا كنت داخل الحقل المسرحي.
لهذا لم يكن أمامي سوى أن أتبع هذا المنطق أمام تجربة عرض " الانتظار الأخير" لفرقة نادي مسرح قصر ثقافة كوم أمبو ، تأليف وإخراج " خالد عطا الله"، تلك التجربة التي أراها مميزة على كافة المستويات ، بما تمتلكه من خصوصية في التعبير ، تلك الخصوصية النابعة من بساطة التناول لحدث يومي معتاد تحول إلى حدث حامل لمجموعة من الدلالات القادرة على التفكك والتكوين باستمرار لخلق ما هو غير عادي فيتكشف لنا الوجه الآخر لهذا العالم المطروح ، فالعرض يدور حول أحد العمال القادمون من الصعيد ممن يأخذون أدواتهم وينتظرون في الشوارع والميادين لعل أحدا يستعين بهم في العمل ، هذا الرجل يأتي للرصيف الذي اعتاد الجلوس عليه انتظارا للرزق ، وحين يطول انتظاره ، يبدأ تداعي الذكريات لديه ليعرض لنا معاناته من خلال يوم كامل يعيشه، إن ذلك الحدث الذي يتكرر يوميا في المدينة وقد لا نلتفت إليه يتوقف عنده العرض ويصنع منه لحظاته الخاصة الكاشفة لوضعية هذا العامل داخل ذلك الفضاء الضاغط عليه بما يمثله من أنظمة ترسخ وجوده وتؤكد عليه.
فالعامل قادم بثقافته الخاصة بما تحمله من قيم إلى ثقافة المدينة التي يذوب داخلها ، فالمدينة ترفضه ككيان له تلك المرجعية الثقافية وتقبله كمجرد جسد ليتشيأ كسلعة داخل ذلك الفضاء وتمارس عليه كافة الممارسات الاستهلاكية ، ولعل هذا ما يجعل مسمى " سوق الرجال" له مغزاه عندما يطلق على هذه الفئة.
إن تلك المقابلة بين الثقافتين هي ما تصنع العالم الدرامي وآليات الصراع فيه ، فالعامل يريد أن يحتفظ بثقافته وهويته الخاصة خارج فضائها الذي أفرزها – المجتمع الصعيدي- ويعيش بها في فضاء مغاير رافض لها ، ذلك لاحتوائه على ثقافة بديلة يعطيها قوة وجوده على مستوى الرؤية ، لهذا تصبح مرجعية الصعيدي مهمشة داخل هذا الفضاء بل وتصل في النهاية أن تصبح معدومة بعد أن تحول إلى مجرد جسد/شيء تبتلعه كيانات هذا الفضاء ، خاصة ما إذا كان هذا الفضاء هو الشارع الذي يمثل مركز المدينة وتصل فيه آلياتها إلى الذروة سواء على مستوى شبكة العلاقات أم طبيعة الممارسات، فالشارع والمدينة في حالة تلازم مستمر ، فالشارع المفتوح يختزل داخله ثقافة المدينة.
لهذا نجد تطور الحدث داخل العرض يسير بشكل متلازم مع فرض صورة الشارع على فضاء المسرح تدريجيا ، إلى أن يسيطر عليه كلية ويجعل العامل جزء مكون له في الصورة وليس خارج عنه ، فالعامل يدخل في بداية العرض ومعه جدار هرمي يضعه في منتصف عمق المسرح ليعبر عن خصوصيته داخل الفضاء ، ثم يقوم بصنع مفردات الشارع من خلال قطعتين من القماش الطويلة عليها خطوط عريضة سوداء وأخرى بيضاء ، يضع واحدة على مستوى مرتفع قليلا أمام الجدار الهرمي ، والثانية تغطي مقدمة المسرح ، ليكون منظور المتفرج عبارة عن منظور عرضي لشارع برصيفيه الجانبيين ، فصناعة العامل لهذا العالم من خلال اكسسواراته المختلفة يعطي دلالة عميقة جدا داخل العرض تمهد للمفارقة التي سيتعرض لها فيما بعد ، وقد أفسح المجال لهذا عنصر الديكور والاستخدام الأمثل له بشكل بسيط ، ورغم بساطته إلا أنه مبهر وممتع في نفس الوقت يعبر عن خيال فطري في التعامل مع خشبة المسرح من المخرج "خالد عطا الله" ، فالعامل يدخل هذا العالم معتقدا أنه قادر على أن يحافظ على وجوده ، بأن ينظم ويشكل الفراغ بما يتلائم مع فضائه المهجور ، إلا أنه يكتشف عكس ذلك حيث يتوارى الهرم ويقلب على الجانب الآخر ويظهر باهتا بلا ماهية محددة لتغيب سطوته على هذا العالم الذي شكله بنفسه ، فيصبح غير قادر على التحكم به ، إن فضاء الشارع ينفي وجود فضاء القرية الصعيدية على مستويي الصوت والصورة ، فالنظام الحاكم لهنا الآن المسرحية أصبحت تتحكم فيه آليات الشارع ، لهذا يحاول العامل أن يقاومها في رحلة انتظاره للرزق من خلال جسده الذي يحاول أن يمارس طقوسه الخاصة التي كان يمارسها في الماضي ،حتى يحاول أن يستدعي تاريخه على أرض الحاضر في "هنا الآن"، جسد لا سبيل أمامه إلا هذا حتى لا يتعرض للفناء في زخم الشارع ، ذلك لأن عملية استدعاء تاريخ سلوكه الشخصي هو ما يؤكد على آدمية هذا الجسد.. وإذا ما فقده سيتحول إلى مجرد شيء ، إلا أن العامل ( علي محمد علي) يصبح تدريجيا غير قادر على عملية الاستدعاء نظرا لغياب فضائها مقابل حضور فضاء نظامه المسيطر يفرض ممارسات بعينها وليدة منه ، وليدة وسائل الإعلام والقيم الاستهلاكية وأبنية الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية وما ينتج عنها ، لهذا يفقد الجسد خصوصيته والتي ميزها المخرج على المستوى البصري من خلال عنصر الملابس الصعيدية التي يرتديها العامل، فمع مرور الزمن والانتظار يتعرى قطعة قطعة ليصبح مجرد جسد بلا مرجعية داخل النظام الرأسمالي والذي يجعله قابل للاستهلاك ، فها هو يمارس الجنس تحت الأرصفة. وتصبح الصورة المسرحية أكثر دلالة من خلال تضخم كيانات الشارع فالأقمشة/ الرصيف ترتفع تدريجيا لتغطي عمق المسرح ويتوارى وراءها البناء الهرمي تماما ، كما تعلق عليها الملابس لتصبح جزءًا منها.
وقد أضاف للعرض المسرحي عنصر المؤثرات الصوتية \عبد المنعم عباس، التي كانت داخل نسيج عالم المعنى في رؤية المطروحة من خلال المقابلة بين أصوات المدينة (الضوضاء – أصوات السيارات- الأغاني السطحية في وسائط الإعلام) والموسيقى المحملة بالتيمات والإيقاعات الصعيدية..إن تلك المقابلة الصوتية أكدت على الأزمة التي يمر بها البطل وأثرت اللحظات الدرامية في محاولات استدعاء التاريخ لمقاومة فضاء الشارع.
وفي النهاية يهزم العامل في محاولاته .. ويفنى الماضي (النبوت –القوة- الملبس الصعيدي- الموسيقى المحلية) في مقابل حضور هنا الآن لفضاء المدينة وآلياته(أصوات الشارع- أدوات العامل- العري والتأكيد على الجسد-وهم الوسائط الإعلامية) لهذا يفقد العامل خصوصيته ويتحول إلى مجرد جسد يموت تحت الأرصفة التي تمددت واحتلت الفضاء بالكامل.
خالد رسلان
لهذا لم يكن أمامي سوى أن أتبع هذا المنطق أمام تجربة عرض " الانتظار الأخير" لفرقة نادي مسرح قصر ثقافة كوم أمبو ، تأليف وإخراج " خالد عطا الله"، تلك التجربة التي أراها مميزة على كافة المستويات ، بما تمتلكه من خصوصية في التعبير ، تلك الخصوصية النابعة من بساطة التناول لحدث يومي معتاد تحول إلى حدث حامل لمجموعة من الدلالات القادرة على التفكك والتكوين باستمرار لخلق ما هو غير عادي فيتكشف لنا الوجه الآخر لهذا العالم المطروح ، فالعرض يدور حول أحد العمال القادمون من الصعيد ممن يأخذون أدواتهم وينتظرون في الشوارع والميادين لعل أحدا يستعين بهم في العمل ، هذا الرجل يأتي للرصيف الذي اعتاد الجلوس عليه انتظارا للرزق ، وحين يطول انتظاره ، يبدأ تداعي الذكريات لديه ليعرض لنا معاناته من خلال يوم كامل يعيشه، إن ذلك الحدث الذي يتكرر يوميا في المدينة وقد لا نلتفت إليه يتوقف عنده العرض ويصنع منه لحظاته الخاصة الكاشفة لوضعية هذا العامل داخل ذلك الفضاء الضاغط عليه بما يمثله من أنظمة ترسخ وجوده وتؤكد عليه.
فالعامل قادم بثقافته الخاصة بما تحمله من قيم إلى ثقافة المدينة التي يذوب داخلها ، فالمدينة ترفضه ككيان له تلك المرجعية الثقافية وتقبله كمجرد جسد ليتشيأ كسلعة داخل ذلك الفضاء وتمارس عليه كافة الممارسات الاستهلاكية ، ولعل هذا ما يجعل مسمى " سوق الرجال" له مغزاه عندما يطلق على هذه الفئة.
إن تلك المقابلة بين الثقافتين هي ما تصنع العالم الدرامي وآليات الصراع فيه ، فالعامل يريد أن يحتفظ بثقافته وهويته الخاصة خارج فضائها الذي أفرزها – المجتمع الصعيدي- ويعيش بها في فضاء مغاير رافض لها ، ذلك لاحتوائه على ثقافة بديلة يعطيها قوة وجوده على مستوى الرؤية ، لهذا تصبح مرجعية الصعيدي مهمشة داخل هذا الفضاء بل وتصل في النهاية أن تصبح معدومة بعد أن تحول إلى مجرد جسد/شيء تبتلعه كيانات هذا الفضاء ، خاصة ما إذا كان هذا الفضاء هو الشارع الذي يمثل مركز المدينة وتصل فيه آلياتها إلى الذروة سواء على مستوى شبكة العلاقات أم طبيعة الممارسات، فالشارع والمدينة في حالة تلازم مستمر ، فالشارع المفتوح يختزل داخله ثقافة المدينة.
لهذا نجد تطور الحدث داخل العرض يسير بشكل متلازم مع فرض صورة الشارع على فضاء المسرح تدريجيا ، إلى أن يسيطر عليه كلية ويجعل العامل جزء مكون له في الصورة وليس خارج عنه ، فالعامل يدخل في بداية العرض ومعه جدار هرمي يضعه في منتصف عمق المسرح ليعبر عن خصوصيته داخل الفضاء ، ثم يقوم بصنع مفردات الشارع من خلال قطعتين من القماش الطويلة عليها خطوط عريضة سوداء وأخرى بيضاء ، يضع واحدة على مستوى مرتفع قليلا أمام الجدار الهرمي ، والثانية تغطي مقدمة المسرح ، ليكون منظور المتفرج عبارة عن منظور عرضي لشارع برصيفيه الجانبيين ، فصناعة العامل لهذا العالم من خلال اكسسواراته المختلفة يعطي دلالة عميقة جدا داخل العرض تمهد للمفارقة التي سيتعرض لها فيما بعد ، وقد أفسح المجال لهذا عنصر الديكور والاستخدام الأمثل له بشكل بسيط ، ورغم بساطته إلا أنه مبهر وممتع في نفس الوقت يعبر عن خيال فطري في التعامل مع خشبة المسرح من المخرج "خالد عطا الله" ، فالعامل يدخل هذا العالم معتقدا أنه قادر على أن يحافظ على وجوده ، بأن ينظم ويشكل الفراغ بما يتلائم مع فضائه المهجور ، إلا أنه يكتشف عكس ذلك حيث يتوارى الهرم ويقلب على الجانب الآخر ويظهر باهتا بلا ماهية محددة لتغيب سطوته على هذا العالم الذي شكله بنفسه ، فيصبح غير قادر على التحكم به ، إن فضاء الشارع ينفي وجود فضاء القرية الصعيدية على مستويي الصوت والصورة ، فالنظام الحاكم لهنا الآن المسرحية أصبحت تتحكم فيه آليات الشارع ، لهذا يحاول العامل أن يقاومها في رحلة انتظاره للرزق من خلال جسده الذي يحاول أن يمارس طقوسه الخاصة التي كان يمارسها في الماضي ،حتى يحاول أن يستدعي تاريخه على أرض الحاضر في "هنا الآن"، جسد لا سبيل أمامه إلا هذا حتى لا يتعرض للفناء في زخم الشارع ، ذلك لأن عملية استدعاء تاريخ سلوكه الشخصي هو ما يؤكد على آدمية هذا الجسد.. وإذا ما فقده سيتحول إلى مجرد شيء ، إلا أن العامل ( علي محمد علي) يصبح تدريجيا غير قادر على عملية الاستدعاء نظرا لغياب فضائها مقابل حضور فضاء نظامه المسيطر يفرض ممارسات بعينها وليدة منه ، وليدة وسائل الإعلام والقيم الاستهلاكية وأبنية الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية وما ينتج عنها ، لهذا يفقد الجسد خصوصيته والتي ميزها المخرج على المستوى البصري من خلال عنصر الملابس الصعيدية التي يرتديها العامل، فمع مرور الزمن والانتظار يتعرى قطعة قطعة ليصبح مجرد جسد بلا مرجعية داخل النظام الرأسمالي والذي يجعله قابل للاستهلاك ، فها هو يمارس الجنس تحت الأرصفة. وتصبح الصورة المسرحية أكثر دلالة من خلال تضخم كيانات الشارع فالأقمشة/ الرصيف ترتفع تدريجيا لتغطي عمق المسرح ويتوارى وراءها البناء الهرمي تماما ، كما تعلق عليها الملابس لتصبح جزءًا منها.
وقد أضاف للعرض المسرحي عنصر المؤثرات الصوتية \عبد المنعم عباس، التي كانت داخل نسيج عالم المعنى في رؤية المطروحة من خلال المقابلة بين أصوات المدينة (الضوضاء – أصوات السيارات- الأغاني السطحية في وسائط الإعلام) والموسيقى المحملة بالتيمات والإيقاعات الصعيدية..إن تلك المقابلة الصوتية أكدت على الأزمة التي يمر بها البطل وأثرت اللحظات الدرامية في محاولات استدعاء التاريخ لمقاومة فضاء الشارع.
وفي النهاية يهزم العامل في محاولاته .. ويفنى الماضي (النبوت –القوة- الملبس الصعيدي- الموسيقى المحلية) في مقابل حضور هنا الآن لفضاء المدينة وآلياته(أصوات الشارع- أدوات العامل- العري والتأكيد على الجسد-وهم الوسائط الإعلامية) لهذا يفقد العامل خصوصيته ويتحول إلى مجرد جسد يموت تحت الأرصفة التي تمددت واحتلت الفضاء بالكامل.
خالد رسلان